تناولنا فى المقال السابق كيف أن الحروب تترك بصماتها على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وقد اعتبرت حرب أكتوبر 1973 نموذجاً لاقتصاد الحرب، والتصديق على أن السلاح الاقتصادى أحد أهم الأسلحة التى مكنت الدولة المصرية من الصمود عقب هزيمة 1967 وحتى نصر أكتوبر 1973 والإسهام فى تغيير مفهوم الأمن القومى للدولة طبقا لما أوضحه «روبرت مكنمارا»، وزير الدفاع الأمريكى الأسبق وأحد المفكرين الإستراتيجيين البارزين، فى كتابه جوهر الأمن، حيث قال: «إن الأمن يعنى التطور والتنمية، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، فى ظل حماية مضمونة، وأن الأمن الحقيقى للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التى تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها، لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية فى كافة المجالات، سواء فى الحاضر أو المستقبل» وهو ما استوعبه المخطط الاقتصادى المصرى اثناء وبعد حرب أكتوبر 73، عبر مجموعة من الآليات المستندة على فكر اقتصادى وطنى مصرى خالص واتباع الدولة سياسة اقتصادية انكماشية، عبر تطبيق ثلاث أدوات رئيسية، وهو ما صب فى إعادة النظر فى خطط الاستيراد والتصدير، وتطبيق ما يعرف بـاسم «سياسة الإحلال محل الواردات» الرامية لإقامة قاعدة صناعية متكاملة، مع الوفاء باحتياجات السوق، وتقليل فاتورة الاستيراد نتيجة لإحلال السلع الصناعية المحلية محل مثيلتها المستوردة، وخلق فرص عمل جديدة وهذه السياسات الاقتصادية السابقة التى انتهجتها الدولة المصرية ولم تنجح فيها، انتهجتها النمور الآسيوية فى مواجهة التحديات والأزمات التى تعرضت لها ونجحت فى تجاوزها، وتسعى مصر عبر سياساتها الاقتصادية الراهنة إلى مناقشة فرص الاستثمار المشترك، وإمكانيات توسيع مجالات التعاون فى القطاعات ذات الأولوية مع دول العالم خاصة المتقدم اقتصاديًا وعلى رأسها الصين لدعم مجالات الصناعة، والتكنولوجيا، والنقل، والبنية التحتية والطاقة النظيفة، وهو ما تكلل باستقبال الرئيس السيسى، مو دينغية رئيس مجلس إدارة مجموعة الصين الوطنية للهندسة الكيميائية «CNCEC»، لذا تسعى مصر لبذل جهود كبيرة لتحسين بيئة الاستثمار من خلال الإصلاحات التشريعية، وإنشاء وحدات دعم للمستثمرين، وتوفير حوافز استثمارية متنوعة، فى إطار عملية المواءمة بين رؤية «مصر 2030» ومبادرة «الحزام والطريق» الصينية، بهدف تعظيم الاستفادة من المزايا التنافسية للبلدين، وفتح آفاق جديدة للشراكة بين القطاعين العام والخاص، الآن مصر أصبحت صاحبة تجربة اقتصادية ناجحة بعد عامين من الحرب، والتوصل لاتفاق إنهاء الحرب فى غزة، اتفاق سوف تنتهى معه سلسلة من الخسائر المليارية التى تكبدتها اقتصادات المنطقة منذ بدء الحرب وعلى رأسها الاقتصاد المصرى الذى كان الأكثر تضرراً من تداعيات التوترات الجيوسياسية، وفقد نحو 9 مليارات دولار من عوائد قناة السويس، هذا بجانب التحسن المتوقع فى معدلات تدفق السائحين إلى مصر، وانخفاض تكلفة الاقتراض السيادى، مما يدعم ويعزز من طمأنة المستثمرين ودعم تدفق رءوس الأموال الأجنبية، واستقرار أداء الجنيه المصرى مع تراجع الضغوط الخارجية على الاقتصاد المحلى ما يسهم فى تحقيق مستهدفات النمو عند 7 ٪»بحلول 2030، كل ماسبق يؤكد أنه رغم تلاحق الأحداث فى منطقة الشرق الأوسط، إلا أن القيادة السياسية تثبت يوماً بعد يوم رشدها السياسى وقدرتها على إدارة أصعب الملفات بهدوء وحكمة، وفق نظرية تحقيق الأهداف بالنتائج. وأنها قادرة بعون الله على أن تضع خطوطاً حمراء للحفاظ على أمن مصر القومى فى التوقيت والمكان المناسبين مع الإدراك التام بأن الحضور الأمريكى للرئيس ترامب لا يجب أن يمر هكذا بدون تحليل وفهم لمجريات الأوضاع فى الشرق الأوسط، فهذا الحضور وبهذه الكيفية سوف يمثل من وجهة نظرى تحولا استراتيجيًا يعيد تشكيل موازين القوى، ويضع مصر مجدداً فى مركز صناعة الأحداث على الساحتين العربية والدولية.