فى هذا العالم المزدحم بالصراعات والمصالح، يغيب عن كثيرين أن جوهر الوجود لا يقوم على النتائج، بل على النية والعمل. فالله سبحانه لم يسأل عباده عن ثمار ما زرعوا، بل عن مدى إخلاصهم فى الزرع، وصدقهم فى البذل، وأمانتهم فى أداء الأمانة. ومن أدرك هذه الحقيقة سكنت روحه، وهدأت نفسه، ولم يعد قلقًا على ما يفوته أو يضيع منه، لأن قلبه امتلأ يقينًا بأن يد الله معنا، وأنه لا شيء يضيع ما دام لله فيه نية خالصة.
ليس أعظم من أن يعمل الإنسان بإخلاص، وأن يبذل جهده فى صمت دون تظاهر أو انتظار ثناء. فالإخلاص طاقة خفية لا يراها الناس، لكنها تُرفع إلى السماء، وهناك تُوزن بميزان العدل الإلهى الذى لا يظلم مثقال ذرة. من يعمل بإخلاص لا يبتغى وجه أحد، ولا ينتظر تصفيقًا ولا مكافأة، بل يسعى فى الأرض سعى من أيقن أن عمله عبادة، وأن كل جهد يبذله هو تسبيح بصوت مختلف. والاجتهاد هو الوجه العملى للإخلاص، فليس الصادق من يتمني، بل من يعمل، ومن يزرع رغم قسوة الأرض، لأنه مؤمن أن الثمر بيد الله وحده، لا بيد أحد من خلقه.
أنا شخصيًا أعمل بكل ما أملك من جهد وضمير، أسعى إلى الاتقان فى كل ما أوكل به، أضع قلبى قبل يدى فى أى مهمة أكلف بها، لا أتهاون، ولا أتواني، ولا أبحث عن مديح أو مكافأة. أعمل لأن العمل فى ذاته عبادة، لأن بذل الجهد شكرٌ على نعمة القدرة، ولأن الإخلاص فى العمل أقصر طريق لرضا الله. وحين تأتى النتائج، لا أفرح ولا أحزن، بل أقف متأملاً ساكنًا، كما يقف درويش متصوفاً فى حضرة مولاه، راضيًا بما قسم، مؤمنًا أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. لا أجادل القدر، ولا أعاتب الأيام، لأننى أعلم أن المقادير تُساق بحكمة بالغة، وأن ما يُقدَّر لنا هو تمام العدل وإن لم نفهمه بعد.
من يدرك هذه المعانى يعيش طمأنينة لا يعرفها من يربط سعادته بالنتائج. فما دام الإنسان قد أدى واجبه بإخلاص وتجرد، فلا يضره ما كانت النهايات. لأن المقادير بيد الله، والأرزاق موزونة بميزان السماء، لا يدخلها ظلم ولا محاباة. وما سلوكيات البشر إلا انعكاس دقيق لإرادة الله، فكل قرار، وكل فعل، وكل خطوة فى حياتنا، ما كانت لتحدث إلا بإذن من خالقها. لذلك لا معنى للغضب من تصرفات الناس، ولا جدوى من الحزن على ما فات، فكل ما يحدث يسير وفق خطة إلهية محكمة لا يراها إلا من أشرق قلبه بالرضا.
دع الناس يعملون ما يعملون، ويقولون ما يقولون، ويخطئون ما يشاؤون، فحصيلة ذلك كله ستُوزن فى موازينهم يوم الحساب. أما أنت، فاجعل قلبك معلقًا بالله وحده، لا بآراء الناس ولا بحكمهم عليك. نم قرير العين راضيًا مرضيًا، شريطة أن تكون قد قمت بما يجب عليك القيام به على أكمل وجه، بضمير حيّ، وإخلاص صادق، وتجرد تام من الغايات الصغيرة. واعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، حتى وإن لم يرَ الناس إحسانك.
التمسك بالمبادئ والأخلاق والشرف ليس ترفًا ولا شعارًا، بل هو جوهر الإنسانية، وسبيل النجاة فى دنيا تموج بالزيف. الشرف ليس أن تكسب، بل ألا تُباع. والكرامة ليست أن تُعرف، بل أن تبقى نقيًّا حين يتسخ كل شيء حولك. تمسك بما تؤمن به، وادفع عن الحق ما استطعت، ولا تساوم على ضميرك، فكل شيء زائل إلا ما كان لله. وإن خذلك الناس اليوم، فالله لا يخذل أبدًا من جعل قصده له وحده.
من عاش بهذا الصفاء، أدرك أن الطمأنينة لا تأتى من الخارج، بل من الداخل، من يقين القلب بأن كل ما يجرى إنما هو لحكمة لا نعلمها، وأن ما نراه شتاتًا واضطرابًا هو فى الحقيقة نظام دقيق تسيره يد الله التى لا تخطئ. حين تصل إلى هذه المرتبة، لن يقلقك ما يفوت، ولن يخيفك ما يُقدّر، لأنك ستعلم أن الله معك، لا يتركك، ولا يغيب عنك لحظة.
فلتعمل، ولتجتهد، ولتخلص، ثم سلّم الأمر كله لله. لا تسع وراء النتائج، بل وراء الرضا. لا تطلب نصيبك فى الدنيا قبل أن تتيقن أنك أديت ما عليك. إن فعلت، ستنام قرير العين، لأنك تعلم أن يد الله معك، تمسك بك حين تضعف، وتوجّهك حين تحتار، وتجازيك بعدلها العظيم حين يأتى أوان الجزاء.