جلست مع صديق على كافيه شهير نتجاذب أطراف الحديث حول الانتخابات النيابية وتطرقنا إلى أهمية البرامج الانتخابية ودور الأحزاب وأنماط المرشحين ودور الناخب.. وكان هذا الحديث.. اتفقنا أنه فى كل استحقاق انتخابى جديد، تتزين الشوارع والميادين والأزقة بوجوه مبتسمة وشعارات رنانة من طراز «ابن البلد» و»خدمات بلا حدود» و»الأمل فينا».. لافتات ضخمة بألوان مختلفة تَعِد الناس بالجنة الموعودة، وإصلاح ما أفسده الدهر وتوفير الخدمات وبناء مشروعات ولكنها نادرًا ما تشرح لنا الطريق إلى تحقيق ذلك. وأن الناخب، وسط هذا الزحام، يقف حائرًا: من يستحق أن يمنحه صوته؟ من الأجدر بتمثيل إرادته تحت قبة البرلمان؟ والحقيقة البسيطة التى كثيرون يتجاهلونها أن الإجابة ليست فى صور المرشحين ولا فى بيانات الأحزاب، بل فى وعى المواطن نفسه. فهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وصوته ليس إذنًا بالتمثيل، بل تفويضًا مشروطًا بالمحاسبة. الناخب.. حجر الأساس فى البناء الديمقراطي.. فى جمهورية «بالحب نبني»، لا تبدأ الديمقراطية بالمرشح، بل بالناخب. هو الذى يرفع من يشاء، ويُسقط من يشاء، ويقرر مستقبل التشريع والرقابة بمداد صوته فى الصندوق.. ودعمه المشروط للمرشح.. وكل مرشح، مهما علا شأنه أو اتسع نفوذه، لا يملك إلا ما يمنحه المواطن. وإن الوعى الشعبى هو الحصن الحقيقى ضد المال السياسي، والفساد المنظم والضمانة الوحيدة لبرلمان قوى يمثل الناس لا المصالح.. وقال صديقي: حين يكون الناخب حرّ الإرادة، مستنير الاختيار، يتحول البرلمان من ساحة نفوذ إلى منبر وطن.. يخدمه لا يخدم نفسه.. وقلت: من يسعون إلى نيل هذه الثقة، تتوزع ملامحهم بين ثلاثة أنماط رئيسية، تتفاوت فى الأسلوب لكنها تتفق فى الهدف: الوصول إلى قلوب الناس وصناديقهم. أولاً: المرشح المالي.. بريق القوة وسرعة النسيان، هو المرشح الذى يرى فى الانتخابات معركة استثمارية كبري.. ينطلق من البنك أو من «تحت البلاطة» قبل أن يزور بيت العائلة، ويعتقد أن النفوذ طريق مختصر للثقة.. ينفق ببذخ على اللافتات والعزومات والكراتين، ظنًّا أن الولاء يُشترى كما تُشترى الإعلانات. لكن ما يغيب عنه أن الناخب الذكى لم يعد «زبونًا انتخابيًا»، بل مواطنًا يدرك أن من يشترى الصوت اليوم سيبيع الوعود غدًا. المال قد يفتح الأبواب، لكنه لا يفتح الضمائر. ثانيًا: المرشح الخدمي.. وكيل الناس أم وكيل خدمات؟ هذا هو «ابن المنطقة» الذى يعرف الجميع، يحضر الأفراح ويواسى فى الأتراح، ويتقن لغة القرب والدفء الإنساني.. حين تكون خدماته نابعة من حس اجتماعى حقيقي، يصبح رمزًا للعطاء. لكن حين تتحول إلى وسيلة لكسب الأصوات، يصبح مجرد موظف موسمى فى موسم الانتخابات. التمثيل النيابى ليس توزيع مساعدات، بل تشريع ورقابة ورؤية وطنية. والبرلمان ليس مكتب خدمات عامة، بل مصنع قوانين تُبنى عليها الدولة. ثالثًا: المرشح صاحب الرؤية.. المثقف الغريب.. هو صاحب الحلم الكبير والبرنامج العلمى الرصين.. يتحدث عن التنمية المستدامة والحوكمة الرقمية ومكافحة الفساد بمناهج علمية، لكنه غالبًا يصطدم بجدار اللغة الشعبية التى لا تفهم مصطلحاته.. ورغم أنه أكثر صدقًا فى النية، إلا أن صوته أضعف فى سوق المهرجانات الانتخابية. إن التحدى الحقيقى أمام هذا النوع من المرشحين هو تبسيط الفكر دون تسطيح المعني، وترجمة الرؤية إلى خطوات يفهمها المواطن ويؤمن بها. صديقى صمت قليلا ثم قال: الأهم من شخصية المرشح ونفوذه وعلمه وخدماته ورؤيته برنامجه الانتخابي.. فالبرنامج الانتخابى ليس كتيب دعاية ولا ورقة يُلوّح بها أمام الكاميرات، بل عقد شرف بين المرشح والناخب.. هو جوهر العملية الديمقراطية، ومرآة نوايا صاحبها. البرنامج الحقيقى يُصاغ بلغة واضحة، واقعية، قابلة للتطبيق، ويعكس إدراكًا عميقًا لقضايا الناس المحلية والوطنية على السواء.. وكل مرشح يضع برنامجًا جادًا ويلتزم به، لا يربح فقط ثقة الناخبين، بل يرتقى بالوعى الجمعى كله.. واختتم النقاش بدور الأحزاب السياسية، التى مهما بلغت قوتها، ليست سلطة فوق المواطن، بل مؤسسات تعمل لحسابه. دورها أن تُعِدّ كوادر كفؤة، وتقدّم برامج قابلة للمحاسبة، وتدعم ثقافة المشاركة لا التبعية.. والناخب الواعى هو الذى يفرض على الحزب أن يلتزم بالشفافية، لا العكس. وأخيرا ونحن ندفع الحساب اتفقنا: أن صوتك يبنى وطنك.. صوتك هو أساس الشرعية، ومصدر السلطة، ومعيار الكفاءة. وهو من يصنع النائب، ويحدد مصير الأحزاب، ويرسم طريق الدولة.