استمرارًا لتأمل قوله تعالى : «والله يعلم وأنتم لا تعلمون» والذى جاء ختامًا لأربع آيات قرآنية تتعلق بحسابات بشرية قاصرة مهما بلغت فى مقابل حسابات إلهية لا يتسرب إليها أدنى شك فى النفوس المؤمنة كما تتعلق بنفس بشرية تحب وتكره وترغب وتشتهى وتنفر وتخاف ، وتقف أمام الظواهر فى مقابل عالم الغيب والشهادة والظاهر والباطن والبدايات والمآلات ـ أقول استمرارا للتأمل نتوقف عند قوله: « إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ «
والمتأمل فى الآية يقف عند نقاط عدة الاولي: أن هناك من لا يفعلون الشر فقط وإنما هناك من يحبون أن ينتشر الشر فى المجتمع كله خاصة رذيلة الزنا وما داموا يحبون ذلك فإنهم يعملون على نشر ما يحبون
والثانية: الآية تأتى فى سياق الحديث عن حادثة الإفك وتشير إلى أن هناك من يحبون أن تنتشر هذه الفاحشة فى المؤمنين أى الذين تبرءوا من الشرك وقرروا وأعلنوا أن إيمانهم يقتضى ألا يفعلوا مثل هذا الفعل الشنيع الذى نهاهم الإيمان عنه و ملتزمون بذلك
و الثالثة: أن هناك من يريدون أن يكسروا هذا الإيمان إما لأنهم حاقدون على أهل الإيمان لما هم فيه من نعمة ويسعون إلى تلويث الصورة النموذجية للإيمان المتمثلة فى الثبات على مبادئه وعدم الخروج على مقتضياته ، أو لأنهم واقعون فى هذه الرذيلة فلا يريدون أن يكونوا وحدهم فيها وهو ما يشير إليه المثل العامى «ماحدش أحسن من احد « أو المثل الذى يقول:» يا رب ماتفرح حد واحنا حزانة « كما أنهم بنشر الفاحشة يهونون على الذين اسقطتهم نفوسهم الضعيفة فيها فيريحون ضمائرهم بأن الأكثرية واقعة فيها فلا حرج ، فما بالنا بمن كانوا قدوة للمجتمع ويشاع عنهم السقوط فيها .
والرابعة: أن هؤلاء الذين يحبون شيوع الفاحشة فى مجتمع المؤمنين لهم عذاب أليم ليس فى الآخرة فقط وإنما فى الدنيا والآخرة ،وقد قال بعض المفسرين أن عذاب الدنيا بإقامة الحد عليهم ـ حد القذف ـ وعذاب الآخرة هو جزاؤهم يوم القيامة وهناك من يرى أن العذاب فى الدنيا لا يقف عند الحد فقط وإنما عذاب نفسى بالشعور بالدونية والذلة وعذاب آخر فى حياتهم بصفة عامة لا يدركه إلا هم وقد أشار إلى ذلك سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فى قوله الذى رواه مولاه :» لا تُؤذُوا عبادَ اللهِ ولا تُعيِّروهم ولا تطلُبوا عوراتِهم فإنَّه مَن تطلَّب عورةَ أخيه المسلمِ طلَب اللهُ عورتَه حتَّى يفضَحَه فى بيتِه».
لذا جاء قوله تعالى فى ختام الآية « والله يعلم وأنتم لا تعلمون» ذلك لأن المنحرفين عن السوية المتخذين طريقا يخالف ما عليه الجماعة المؤمنة والاستقامة المأمور بها الناس من قبل الله يحرصون على إظهار غير ما يعانونه من ضياع الذات والكرامة والشرف والشعور بالمعاناة أمام نفوسهم فيحاولون إشعار الآخرين أنهم فى أحسن حالاتهم وأن الاخرين الذين لم يسيروا سيرهم قد حرموا ما هم فيه من سعادة ومكانة ونعمة لذا كان قوله تعالي: « والله يعلم وأنتم لا تعلمون « طمأنة للمؤمنين وتثبيتا لهم على الالتزام وتأكيدا لهم أن ما يبدوا من ظاهر هؤلاء من رضا وسعادة ليس هو الحقيقة وإنما خلفه عذاب لا تعلمون حقيقته والله يعلمه فضلا عما ينتظرهم فى الآخرة من عقاب إن لم يتوبوا.