فى السادس من أكتوبر، اليوم الذى خلدته الذاكرة الوطنية كرمز للبطولة والعزيمة والانتصار، لم تكتف مصر بذكرى مجدها العسكري، بل أضافت إلى سجلها نصرا جديدا من نوع آخر، نصرا بالعقل والمعرفة والثقافة. ففى هذا اليوم المجيد، اعتلى الدكتور خالد العنانى منصب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، ليصبح أول مصرى وعربى يقود هذه المؤسسة الدولية العريقة منذ تأسيسها، فى مشهد يوازى فى رمزيته لحظة عبور الجيش المصرى لخط بارليف قبل نصف قرن.. فوز الدكتور العنانى جاء كاسحا، إذ حصد خمسة وخمسين صوتا مقابل صوتين فقط لمنافسه الكونغولي، فى تأييد شبه إجماعى يعكس المكانة العالمية لمصر، ويؤكد أن العبقرية المصرية التى لا يعتريها أفول ما زالت قادرة على أن تضيء ضمير الإنسانية كما أضاءت فجر التاريخ.. لقد بايع العالم مصر مجددا، ليس بالسلاح، بل بالفكر، فكان النصر هذه المرة نصرا للحضارة والثقافة والهوية المصرية المتجددة.. اختيار المجتمع الدولى للدكتور خالد العنانى لم يكن وليد مصادفة ولا ثمرة مجاملة، بل نتيجة مسيرة علمية وعملية ناصعة، صنعها بعقله وجهده ومثابرته، فهو أستاذ علم المصريات بجامعة حلوان، ووزير السياحة والآثار الأسبق، وأحد أبرز علماء الآثار فى العالم، جمع بين الرؤية الأكاديمية الصارمة والإدارة التنفيذية الواعية، فقاد وزارة السياحة والآثار فى أدق المراحل، ونجح فى أن يجعل من التراث المصرى جسرا للتواصل الإنساني، لا مجرد ماض نتغنى به. فحين تستعد مصر للافتتاح الرسمى للمتحف المصرى الكبير، ذلك الصرح الذى يقف شامخا على ضفاف التاريخ، كأنه مرآة تعكس خلود الهوية وعبقرية الإنسان المصرى عبر العصور، وفى تزامن بليغ لا يخلو من دلالات القدر، يتوج هذا الحدث بفوز الدكتور خالد العنانى بمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو، ليغدو صوت مصر الثقافى هو المتحدث الرسمى باسم ضمير العالم.. فبين متحف يعيد للحضارة ملامحها الأولي، ومنصب يعيد لمصر ريادتها الفكرية، يتجلى المشهد كأن الزمان انحنى إجلالا لميلاد فصل جديد من فصول العظمة المصرية التى لا يعتريها أفول، ولا يغشاها خفوت. إن هذا الفوز يمثل انتصارا وطنيا بامتياز، يعيد لمصر مكانتها الطبيعية فى قيادة الفكر والثقافة والتعليم والعلوم، فوجود مصرى على رأس اليونسكو يمنح بلادنا صوتا قويا فى القرارات الأممية المتعلقة بحماية التراث، وتطوير التعليم، وتعزيز الحوار الثقافى بين الشعوب، وهو أيضا رسالة للعالم بأن مصر ما زالت تؤمن بأن الثقافة هى الطريق إلى السلام، وأن القوة الناعمة لا تقل أثرا عن أى سلاح. ولعل أبلغ ما يميز هذا الحدث، أنه يحمل فى طياته بعدا رمزيا عميقا، فمصر، التى حفظت تراث الإنسانية آلاف السنين، تتولى اليوم رسميا قيادة المؤسسة الدولية المعنية بحمايته، وكأن التاريخ نفسه قرر أن يمنحها الكلمة العليا فى صون ذاكرة البشر، إنها عودة طبيعية لدولة ولدت من رحم الحضارة، ولم تتخل يوما عن رسالتها فى نشر النور والمعرفة. ومع ذلك، يدرك الدكتور العنانى أن الطريق أمامه ليس مفروشا بالورود، فاليونسكو تواجه تحديات جسيمة، من أزمات التمويل إلى تسييس الملفات الثقافية، ومن تباين المصالح الدولية إلى الحاجة الملحة لإصلاح هيكل المنظمة، لكن ما يمتلكه من حنكة دبلوماسية، ورؤية علمية، وخبرة إدارية واسعة، يجعله مؤهلا لقيادة مرحلة جديدة فى تاريخ المنظمة، مرحلة تتوازن فيها الثقافة بالسياسة، والعلم بالإنسان، والهوية بالعالمية. لقد انتصرت مصر فى أكتوبر بالسلاح، وها هى تنتصر اليوم بالعقل والدبلوماسية، انتصاران يفصل بينهما الزمن، لكن يجمعهما جوهر واحد الإيمان بأن الإرادة المصرية لا تهزم، وإذا كانت حرب السادس من أكتوبر قد استعادت الأرض والكرامة، فإن فوز خالد العنانى باليونسكو يستعيد لمصر مكانتها الثقافية العالمية، ويعيد إلى العالم بوصلة الحضارة التى طالما كانت تشير إلى وادى النيل. إن هذا الفوز ليس تكريما لشخص بعينه، بل هو وسام على صدر كل مصري، إنه إعلان واضح بأن مصر لا تزال قبلة للمعرفة، ومنبرا للحكمة، وضميرا حيا للثقافة الإنسانية، وأن التأثير المصرى فى الخارج ما زال فاعلا وأن الدبلوماسية المصرية استعادت قدرتها على التأثير والتغيير ردا على الأفعال الصبيانية ضد القنصليات المصرية فى الخارج. فبعد أن نطقت الأحجار فى الأقصر وسقارة وتل العمارنة بعظمة المصرى القديم، ها هى الكلمة اليوم تأتى عبر صوت مصرى جديد يتحدث باسم الحضارة إلى ضمير العالم. «إنها مصر.. حين تتكلم، يصغى التاريخ».