شرم الشيخ.. المدينة التى تستضيف التاريخ من جديد
خلال ساعات، ستتحول شرم الشيخ إلى قبلة السياسة العالمية. دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى لعقد قمة سلام دولية على أرض مصر ليست مجرد حدث دبلوماسى عابر، بل هى إعلان لمرحلة جديدة فى مسار الشرق الأوسط، وربما تكون البداية الحقيقية لـ»كامب ديفيد الثانية».. فكما كانت الأولى خطوة جريئة فى طريق السلام، تأتى الثانية هذه المرة على أرض السلام ذاتها، محمّلةً بعبء الواقع ورغبة الشعوب فى الخلاص من دوامة الدم.
هذه القمة ليست مناسبة بروتوكولية، بل أضخم وأصدق محاولة جادة لإحلال السلام فى الشرق الأوسط، كما تبدو فى عيون من يعرفون طبائع المنطقة وتناقضاتها. فكل دولة حاضرة إلى شرم الشيخ تحمل أهدافاً كبرى وأخرى فرعية، لكن الهدف الجامع هو وقف الحرب وإطلاق مفاوضات الحل النهائي، ذلك الحلم الذى ظل مؤجلاً لعقود.
> > >
السيسى.. فارس السياسة الذى لا يناور
ما يميز هذه القمة ليس حجم الحضور ولا تنوع الوفود، بل روح من دعا إليها. فالرئيس السيسى مارس السياسة بـ«أخلاق الفرسان». لم يناور، ولم يبتز، ولم يساوم على المبادئ. مارس ما يمكن تسميته بـ«السياسة الأخلاقية» فى زمن باتت فيه المصالح وحدها هى اللغة الوحيدة.
لقد أدرك السيسى منذ سنوات أن السلام لا يُفرض بالسلاح، ولا يولد فى غرف المفاوضات المغلقة، بل يُصنع حين تتلاقى الإرادات الصادقة على أرض الواقع. لذلك اختار شرم الشيخ، المدينة التى شهدت عشرات القمم، لتكون منصة لالتزام علنى أمام العالم.
السيسى يدرك جيداً أن السلام لا يحتاج شعارات بل إلى ضمانات، لذلك أراد أن يُلزم الجميع بتعهداتهم أمام العالم، حتى لا يبقى شيء فى الظل. هذه القمة ليست تفاوضاً فى السر، بل مواجهة أمام الرأى العام الدولي، ووضع كل طرف أمام مسئوليته.
> > >
واقع معقد.. وأطراف متشابكة
الشرق الأوسط اليوم ليس هو شرق كامب ديفيد الأولي. الخريطة السياسية تبدلت، والمصالح تشابكت، والتحالفات تغيرت.
الولايات المتحدة محكومة برؤى دونالد ترامب التى ما زالت تلقى بظلالها على السياسة الأمريكية، رؤية أقرب إلى الصفقات منها إلى المبادئ.
أما إسرائيل، فهى أسيرة لليمين المتطرف الذى يرى فى السلام تهديداً، لا فرصة. لذلك لا يبدو أن السلام يخدم مصالحها الراهنة.
وفى المقابل، حماس تجد نفسها محكومة بضغوط الداخل الفلسطينى وضغوط الإقليم، بين حاجة الشعب إلى الأمان، ورغبة الفصائل فى البقاء فى صدارة المشهد.
فى الجانب الآخر، تقف أوروبا التى تتطلع إلى استقرار يوقف موجات الهجرة ويمنحها متنفساً اقتصادياً وأمنياً. بينما تسعى دول الخليج، ومعها مصر والأردن، إلى وقف الحرب والانخراط فى مفاوضات الحل النهائي، لأنها تعلم أن استمرار النزاع يعنى تهديداً مباشراً لأمنها الداخلى والإقليمي.
> > >
اللعب على أوتار الحقيقة
الرئيس السيسى لم يراهن على الشعارات، بل على الواقع والحقيقة.
هو يعرف أن السلام لا يُولد من النوايا الحسنة وحدها، بل من توازنات دقيقة بين المصالح والمخاوف. ولذلك، جاءت دعوته إلى القمة فى لحظة فارقة: عندما باتت المنطقة على حافة الانفجار، وعندما فقدت الشعوب الأمل فى أن يخرج أى طرف من دائرة الدم.
السيسى فى هذه اللحظة يمارس دور «الضابط الإيقاعي» للمشهد، لا يسمح بانفلات النغمة ولا بطغيان صوت على آخر.
إنه يلعب على أوتار الحقيقة: الكل خاسر إن استمرت الحرب، والكل رابح إن جاء السلام.
لكنه فى الوقت ذاته ليس ساذجاً؛ لا يثق فى الإسرائيليين الذين اعتادوا المراوغة، لذلك اختار أن يجعل من القمة منصةً لإعلان التعهدات، بحيث تُصبح الكلمة المكتوبة والموثقة أمام العالم أقوى من أى وعود شفوية.
> > >
العالم على موعد مع «كامب ديفيد الثانية»
شرم الشيخ، التى احتضنت عشرات المؤتمرات من قبل، تستعد الآن لأن تكون العاصمة السياسية للضمير العالمي.
هذه القمة ليست مجرد حدث مصري، بل مبادرة إنسانية فى لحظة بات فيها العالم أكثر انقساماً من أى وقت مضي.
ولعلها المرة الأولى منذ سنوات التى يُجمع فيها المجتمع الدولى – بمستويات مختلفة – على أن الفرصة التى تطرحها القاهرة قد تكون الأخيرة قبل أن ينزلق الشرق الأوسط إلى فوضى مفتوحة.
قد لا تُولد المعجزة فى يوم واحد، لكن الأكيد أن شرم الشيخ ستعيد تعريف مفهوم «الوساطة»؛ فمصر لا تتوسط بين طرفين، بل تتوسط بين الحرب والسلام.
وبين هذين الحدين يقف الرئيس السيسي، لا يرفع شعارات ولا يبيع أوهاماً، بل يعرض رؤية واقعية تحترم عقل العالم ووجع الشعوب.
> > >
ختاماً.. صوت مصر فى عالم فقد توازنه
فى زمن تغيب فيه الحقيقة وتعلو فيه المصالح، تأتى مصر لتقول كلمتها الواضحة: لا استقرار من دون سلام، ولا سلام من دون عدالة، ولا عدالة من دون شجاعة.
ولعل شجاعة السيسى اليوم تشبه شجاعة السادات بالأمس، مع اختلاف السياقات وتبدل الأزمنة.
فكما كتب السادات اسمه فى التاريخ بكلمة «كامب ديفيد»، ربما يكتب السيسى التاريخ من جديد بكلمة «شرم الشيخ».
وحين يُكتب تاريخ هذه القمة بعد سنوات، سيقال إن رجلاً آمن بالسلام أكثر من خوفه من الحرب، فدعا العالم كله إلى أرضه ليضع الحقيقة على الطاولة.
ذلك هو جوهر الفروسية السياسية، وتلك هى روح مصر التى لا تملّ من الدعوة إلى الحياة.