فى مثل هذه الأيام من كل عام ومنذ 52 سنة، يحاول الإعلام الإسرائيلى تقديم رواية مغلوطة حول حرب السادس من أكتوبر 1973، التى انتصرت فيها مصر انتصاراً ساحقاً على إسرائيل، فرغم كل ما حدث بالفعل على أرض الميدان ويقول إن المصريين كسروا أنف العدو المتغطرس وقضوا على أسطورة الجيش الذى لا يقهر ونسفوا خط بارليف الحصين وعبروا القناة إلى سيناء واستردوا الأرض لاحقا ولقنوا العدو درساً لن ينساه، مازال هناك من يردد أن إسرائيل انتصرت فى هذه الحرب!، وكأنهم يتحدثون عن حرب أخرى غير حرب السادس من أكتوبر 1973!، ورغم الكوارث التى ذكرها قادة الحرب الإسرائيليين فى مذكراتهم عما وصفوه بأسوأ أيام حياتهم ومنهم قيادات بارزة مثل إيلى زعيرا رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية، الذى سجل روايته فى كتاب بعنوان «حرب يوم الغفران.. الأسطورة مقابل الواقع 1993»، وتحدث عن الخسائر والخلل الذى أصاب الجيش الإسرائيل جراء مباغتة الجيش المصرى له بتوجيه ضربة موجعة وغير إيلى زعيرا قادة كثر تحدثوا عن أهوال هزيمتهم فى هذه الحرب، ورغم كل هذا مازال أفيخاى أدرعى المتحدث باسم جيش الاحتلال يدوّن على موقع «إكس» يوم السادس من أكتوبر كل عام ويهنئ إسرائيل بانتصارها فى حرب يوم الغفران كما يطلقون عليها!، وبمراجعة تدوينات أدرعى طوال الخمس سنوات الماضية ستجدها تقريباً متشابهة.. سأعرض نصاً إحداها، قال فيها إن إسرائيل حينها بوغتت فى أقدس أيامها يوم الغفران- وفق تعبيره- قائلاً إنها بدأت بمفاجأة كبيرة، وانتهت بنصر عسكرى إسرائيلي، ولا أحد يعرف فى العالم عن أى نصر يتحدث أدرعي، فقد عبر الجيش المصرى إلى سيناء واسترد الأرض وفرض إرادته، وفى الحروب المنتصر يفرض إرادته على المهزوم، ومصر فى هذه الحرب بسطت يدها كل البسط، وقد تجد بعض المحللين والكتاب الصهاينة فى الغرب يتبنون رواية أدرعى المكذوبة. .بالنسبة للمصريين والعرب لم تكن حرب السادس من أكتوبر1973 مجرد معركة عسكرية خاضتها مصر وحققت فيها أعظم انتصاراتها، بل كانت اختباراً حقيقياً لقدرة الشعب المصرى على تحويل الحلم إلى حقيقة.
من يفتش وراء غطرسة العدو الصهيونى سيكتشف أنها مرض متأصل فى الشخصية الإسرائيلية وسأثبت هنا بدليل من داخل إسرائيل كتاب بعنوان «الغطرسة» صدر فى يوليو 2021، مكون من 652 صفحة للمؤرخ العسكرى الإسرائيلى البروفيسور يوآف جيلبر القائد السابق للواء المظليين الإسرائيلى والمستشار الأكاديمى بكلية القيادة والأركان الإسرائيلية وأستاذ التاريخ العسكرى فى جامعة حيفا.. الكتاب هو الجزء الثالث والأخير من سلسلة دراسات أدرجها جيلبر تتناول فيها الجيش الإسرائيلى فى السنوات ما بين نهاية حرب يونيه 1967 واندلاع حرب أكتوبر 1973، يتحدث الكتاب عن غطرسة القوة التى نشأت بعد حرب 1967 بين القيادات الإسرائيلية، وأدت إلى هزيمتهم النكراء فى حرب أكتوبر.. المؤلف وهو عسكرى شارك فى الحرب يعترف بما وصفه هزيمة إسرائيل النكراء، وناقش جوانب من أسباب هزيمة إسرائيل فى حرب السادس من أكتوبر، نافياً اقتصارها على فشل الاستخبارات الإسرائيلية، وأوضح جيلبر أن المصريين حطَّموا نظرية إسرائيل الأمنية، قائلا نصاً: حرب يوم الغفران أثبتت فشلاً ذريعاً بسبب الافتقار الإسرائيلى إلى فهم التغييرات التى مر بها الخصوم إلى جانب ظروف الساحة الجديدة، لقد كانت حرباً حقيقية، على كل الفجيعة والحزن والمعاناة والتساقط التى شهدتها.
يبدو أن الإسرائيليين جيلاً بعد جيل يتوارثون هذه الغطرسة.. فعلى سبيل المثال، لم يتنازل رئيس الوزراء الإسرائيلى الحالى المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بنيامين نتنياهو عن لغة الغطرسة والتعالى التى تحدث عنها جيلبر فى كتابه، فنتنياهو يردد ليل نهار جملة «نحن نغير الشرق الأوسط»، والحقيقة أنه كشف الوجه الحقيقى الإمبريالى لإسرائيل بأنها دولة منبوذة ارتكبت جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقى فى حق الفلسطينيين.
سيظل انتصار السادس من أكتوبر 1973 ملحمة يذكرها التاريخ العسكرى فى العالم، حتى ولو عاش الإعلام الإسرائيلى حالة فقدان اختيارى للذاكرة، وحتى لو لم يتذكر من انتصر ومن انهزم فى هذه الحرب، وحتى لو تناسى مشهد الأسرى الإسرائيليين وهم عائدون يرتدون بيجامات كستور المحلة.. كل سنة ومصر قوية ومحمية.