لم يكن تحقيق الاتفاق بالأحرف الأولى فجر الخميس الماضى فى شرم الشيخ أمراً سهلاً، بل كان ثمنه نحو 70 ألف شهيد وأضعافهم من الجرحى وتدمير المستشفيات والبنية التحتية فى عملية ممنهجة للإبادة من اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو.. لكن وقف العالم على أطراف أصابعه وهو يتابع مفاوضات الغرف المغلقة فى شرم الشيخ، التى ضمت إلى جانب مصر رئيس المخابرات العامة السيداللواء حسن رشاد ووفد قطر برئاسة رئيس وزرائها ووزير خارجيتها والوفد الأمريكى ستيف ويتكوف وصهر ترامب جاريد كوشنر والوفد الفلسطينى خليل الحية وزاهر جبارين وزياد النجالة وطلال ناجى والوفد التركى إبراهيم كالين رئيس المخابرات وبالطبع الوفد الإسرائيلى رون ديرمر ورئيس الموساد دافيد برنياع ورئيس الشاباك دافيد زيني، وبين شد وجذب وتضييق وانفراج، ابتسم فجر الخميس بتحقيق المرحلة الأولى للاتفاق على أرض مدينة السلام «شرم الشيخ».. كان واضحاً من اسماء الوفود أن هناك ماراثون تفاوضى صعب بين الأطراف، انتهى إلى ما انتهى لإيقاف حرب استمرت 732 يوماً «عامان ويومين».. شهد فيها العالم مأساة حقيقية وجرائم ارتكبتها قوات الاحتلال ضد أبناء فلسطين.. وبالاتفاق تتحقق لحظة فارقة تبعث على الأمل من مدينة السلام ومن سيناء أرض الرسالات والأنبياء ومهد التاريخ والحضارات فى إشراقة جديدة لبدء مفاوضات جادة نحو حل الدولتين وتحقيق سلام دائم فى منطقة هى الأقدم فى صراعات العالم الآن، وأثرت هذه الحرب عبر الفضائيات على الذاكرة البشرية بآثارها المدمرة، فهذه الحرب لا تُقاس فقط بما تركته من تدمير ممنهج للبنية التحتية، بل امتدت لتدمير ذاكرة التاريخ والتراث وليس الأرواح فقط.
لم يكن غريباً نجاح مباحثات شرم الشيخ فى هذه المرحلة التى نأمل ألا يعرقلها اليمين المتطرف «عصابة نتنياهو» وأن يكون لمخرجات شرم الشيخ رصيد على الأرض فى الإفراج عن الأسرى والمساجين من أبناء فلسطين وأسرى ما قبل اتفاق «أوسلو» وما بعده وبينهم نحو 17 أسيراً أصحاب «المؤبدات» بينهم مروان البرغوثى وعبدالله البرغوثى وعباس السيد وإبراهيم حامد وحسن سلامة وأحمد سعادات وغيرهم من أسرى صفقة جلعاد شليط، الذين اعتقلتهم إسرائيل.. وأعتقد أن هذا الاتفاق سيكون قابلاً للتنفيذ ويؤدى إلى ترجمة الرؤية والثوابت المصرية ويفتح مسارات السلام نحو حل الدولتين، وقد تأكد الجميع بمن فيهم صاحب المبادرة الرئيس دونالد ترامب نفسه أن المفاوضين الفلسطينيين من حماس وحركة الجهاد والجبهة الشعبية ومسئول شئون الأسرى ممتازون وأذكياء.
نعود إلى 7 أكتوبر 2023، ونقرأ بهدوء اتفاقات «أوسلو» واتفاق «أريحا» ووصول الوزير النرويجى الخميس إلى رفح يعكس الزخم العالمى للسلام ونجاح الرؤية المصرية التى أعلنها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى المؤتمر الدولى «القاهرة للسلام» وتمســك مصر بثوابتها ولاءتها الأربعــة «لا تهجـــير.. لا حل على حســاب دول أخــرى.. لا تصفية للقضية.. حل الدولتين» هذه المبادئ بعد الحرب هى الأساس الذى قامت عليه مبادرة ترامب والكرة الآن فى ملعب الإخوة فى فلسطين، بأنه حان الوقت لمصالحة فلسطينية خالصة مستغلين فيها إرادة الشارع منذ انتفاضة 88 والحروب السابقة فى غزة، والاتفاق الأخير فى شرم الشيخ الذى يتوج بحضور الرئيس ترامب على أرض مصر.
إن ما حدث فى شرم الشيخ مدينة السلام، رسالة للعالم من الدولة التى خضبت دماء أبنائها أرض الفيروز دفاعاً عن الأرض والقضية الفلسطينية.. أرض السلام، التى تحتضن رمز المحبة والسلام بين الأديان دير سانت كاترين.. الأرض التى كلم فيها الله سبحانه وتعالى سيدنا موسي، وهى الأرض التى شهدت مسرى السيد المسيح عيسى بن مريم عندما خرجت من بيت لحم وليداً صغيراً لحمايته من البطش، وهى الأرض التى بها التجلى الأعظم.. إنها سيناء على أرض مصر، التى ذكرها القرآن عدة مرات صريحة وبشكل مباشر، وذكرها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى أرضها عاش سيدنا يوسف.. حقاً مصر التاريخ والحضارة من شرم الشيخ رسالة السلام تحمل للعالم من بلد الأزهر والإسلام الوسطى.. إن مصر الأبية قادرة على صنع المعجزات، فقد شاهد العالم معجزاتها الحضارية فى أهراماتها وحارسها أبوالهول، وهنا نحن اليوم نرى العالم يقف احتراماً لقائدها وسياستها كراع نزيه للسلام، فهى مفتاح السلام ومفتاح بناء الشرق الأوسط الجديد ليس بصيغة كونداليزا رايس، لكن بطبيعة التعايش الآمن بين شعوب المنطقة.
إن اتفاق مدينة السلام أكد للعالم أن السلام يبدأ من مصر وأن الاستقرار فى المنطقة عنوانه مصر وجمهوريتنا الجديدة التى تمد يدها بالسلام لكل شعوب العالم.
إن ما حدث فى شرم الشيخ يحتاج أن تصغى إسرائيل لصوت الحكمة من أجل مستقبل جديد لمنطقة عانت شعوبها الحروب والأزمات.. وللحديث بقية.