قلت الأسبوع الماضى إننى لا أعتقد أن هناك قضية تشغل الإنسان منذ بدء الخلق وحتى قيام الساعة أكثر من الزمن والخلود، وللدرجة التى أظن أن أبى آدم حين اقترب من شجرة الخلد كان يطمع فى البقاء والخلود بين يد الله.. واستغل الشيطان هذه الغريزة البشرية، فوسوس له بالأكل من هذه الشجرة لينال مراده، ويعلم المولى عز وجل نية مخلوقه آدم، لذلك تاب عليه وغفر له.. وأعتقد أن جوهر القضية هنا هو الجمع بين الرغبة الإنسانية الأساسية فى البقاء والغاية السامية للوجود.
يارب اسمح لى أن أتولى الدفاع عن أبى لأنه غرس فينا الحلم والرغبة فى الخلود، فدفاعى عن أبى يعنى الدفاع عن ذريته وأنا منهم.. يعنى يارب وأنت أعلم به وبنا.. يارب أنت تعلم وعلمك الحق أن الخلود هو عشق آدم وذريته الأبدى، ولكن لماذا يارب؟، من أجل عبادتك والبقاء بالقرب منك، وحتى لو ضللنا الخطى إليك، سرعان ما نعود لك تائبين، طامعين فى المغفرة.
أَنَّى لَنَا أَنْ نَمَلَّ القُرْبَ مِنْ مَلِكٍ
وَالْعُمْرُ يَجْرِى، وَفِيهِ الخَيْرُ مُشْتَرِكٌ؟
يارب.. حَسْبُنا أَنَّ بَعدَ المَوْتِ مَوْعِدُنَا
خُلُودُ طَاعَةٍ تَشْفِى لَنَا كَمَدَا
فَالرَّغْبَةُ الدَّائِمَةُ فِى البَقَاءِ عَمَلٌ
وَلَيْسَتْ سِوَى تَجَلِّى عِشْقِنَا للمولى.
يارب أبى سعى لجوهر العبادة الصادقة التى تتمنى دوام القرب منك لا انتهاءه بالموت الجسدى وإن بقيت الروح.. يارب خلقت أبى من طين، وظن أبى أن الطين لا يبلى، ولكنه يتحول من صورة لأخرى، يلتصق بالأرض ولا يفارقها.. يارب ظن أبى أنه لا يبلى، فلم يكن من نور يخفت ويتلاشى ولا نار تنطفئ وتتحول لرماد، لذلك كان يحلم وذريته ببقاء الجسد بلا وهن ولا مرض ولا موت وبالطبع تسكنه روح من قبسك.. طمعاً فى استدامة العبادة والحمد والشكر حتى قيام الساعة، كى تباهى بنا الملائكة كما قلت على لسان نبيك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وقولك الحق: «إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِى بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِى، أَتَوْنِى شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِى وَيَخَافُونَ عَذَابِى وَلَمْ يَرَوْنِى، فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِى؟..أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ».
يارب.. نَحْنُ نَحْلُمُ بِدَوامِ الوَقْتِ
لِكَيْ نَظَلَّ نَقِيْمُ الحَمْدَ للأبد
فَكُلُّ يَوْمٍ يَمُرُّ دُونَ شُكْرٍ لَهُ
هُوَ خَسَارَةٌ، وَشَوْقُ النَّفْسِ يَقْتُلُهُ
فَالخُلْدُ أَقْصَى أَمَانِى العَبْدِ لَوْ يَدْرِى
لَيْسَ التَّمَرُّدُ، بَلْ دَوْمُ الخُضُوعِ سَرِى
لَوْ أَنَّنَا نَسْتَطِيعُ العَيْشَ دَهْرًا كُلَّهُ
لَخَصَّصْنَا لَهُ حُبًّا لَنْ نُبَدِّلَهُ.
يارب اغفر لأبى ولذريته فى الحلم بالخلود، فالمراد هو التسبيح بحمدك والتكبير لجلالك.
يارب يطلب الجسد الأبدى الخلود.. لا للتمتع، بل لاستدامة العبادة.
إِلهِى، لَيْسَ حُلْمِى أَنْ أَرَى الزَّمَنَ
يَمُرُّ عَلَيَّ دُونَ وَجْدٍ وَلا وَهَنِ
وَلَيْسَ الخُلُودُ بُغَايَةَ نَفْسٍ تُغَامِرُ
بَلِ الشَّوْقُ أَنْ تَبْقَى لِوَجْهِكَ سَاجِدَةً تَذْكُرُ
أَيَا رَبَّ البَقَاءِ، وَسَيِّدَ الأَزَلِ
اِجْعَلْ لِى جَسَداً لا يَعْرِفُ المَلَلَ
لَا لِكَيْ أَتَمَلَّكُ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
بَلْ لِكَيْ أُطِيلَ التَّسْبِيحَ فى خَلْوَتِهَا.
يارب.. أبى وذريته جاءوك يرجون رحمتك ولم يروك، ويخافون عذابك ولم يروك، وقلت وقولك الحق: «فكيف لو رأونى؟».. قلتها لمن جاءوك على جبل عرفات وتشهد ملائكتك بأنك غفرت لهم.. فما بالك يارب بأبى الذى وقف بين يديك؟، فقد تمنى الخلود ليستمر ويظل فى الوقوف بين يديك.. لذلك يارب غفرت لأبى، بعد أن لقنته مفردات الاستغفار، كما علمته من قبل الأسماء كلها.. ولهذا أحمدك يارب وأشكرك على غفرانك لأبى.
اعذرنى ياربى وأنا أدافع عن أبى وأنت منه الأقرب
فَالنَّفْسُ تَرْجُو دَوَامَ القُرْبِ فِى عَمَلٍ
فِى سَجْدَةٍ لا يَحُدُّ مَداها الأَجَلُ
لَوْ أَنَّنِى أَبْقَى أَدْعُوكَ مَا طَلَعَتْ
شَمْسٌ، وَمَا لَيْلَةٌ مِنْ بَعْدِهَا رَجَعَتْ
فَاسْتَدْمِ الجِسْمَ أَوْ فَاهَبْهُ لِى قُوَّة
لِيَشْهَدَ الدَّهْرَ كُلَّهُ * صَلاةً سَمَا جِدَتْ
فَحُبُّ الخُلُودِ، يَارَبِّ، لَيْسَ مَعْصِيَةً
بَلْ هُوَ شَوْقُ المُحِبِّ لِبَقَاءِ الطَّاعَةِ حِسِّيَّةً.
ولهذه الأسباب التى أعرفها ولا أعرفها وتعجز الكلمات عن حمدك وشكرك.. أحمدك يارب وأطلب الغفران مجدداً والعفو المستمر لأبى الذى أورث ذريته الحلم بالخلود، لا لشىء، إلا ليعبدوك ويحمدوك ويشكروك للأبد.. يارب وإن فعلوا ذلك، لا يوفونك قدرك ولا يدركون بعقلهم وحواسهم المحدوة قدرتك اللانهائية ونعمك اللا محدودة.