ظنى أن استضافة مصر لمفاوضات صعبة وشاقة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل قبل يومين بالقاهرة ، وتحديدًا السادس من أكتوبر 2025، تمهيدًا لوقف الحرب الظالمة فى غزة.. لم تكن حدثًا عابرًا بل رمزية مهمة تعمق ذكريات النصر العظيم الذى نحتفل بذكراه الثانية والخمسين هذه الأيام.. والسؤال هنا: أليس هذا هو قدر مصر التى تحملت، ولا تزال، العبء الأكبر فى الدفاع عن قضية فلسطين منذ ظهورها، رغم مزايدات رخيصة من هنا، ومحاولات عبثية للقفز على دورها من هناك.. !!
والسؤال: ماذا سيفعل العرب وخصوصًا الدول التى تملك أوراق ضغط على ترامب وإدارته المنحازة بل المتعصبة لتل أبيب؛ لمنع الأخير من الانحياز كالعادة للرؤية الإسرائيلية وشطحات نتنياهو الذى يعلم القاصى والدانى أنه لا يعدم الوسيلة لإفشال كل صفقة تفاوض لممارسة مزيد من الإبادة والتطهير فى غزة، وتنفيذ مخططاته وأوهامه بضم الضفة وإعلان السيادة عليها بدعم ترامب الذى كان أول من نقل سفارة أمريكا للقدس فى ولايته السابقة، ناهيك عن إطلاق يد نتنياهو للعربدة فى لبنان تارة وسوريا تارة أخرى واليمن تارة ثالثة، ومناوشة تركيا ومصر لابتزازهما.. وهل العرب جاهزون لدعم مصر بقوة لتجنب أى تصعيد قد يدخل المنطقة برمتها لنفق المواجهة الشاملة التى لن ينجو من أوزارها أحدٌ.. ؟!
التاريخ ليس مجرد حكايات تروى للتسلية بل دروس وعبر تستفيد منها فقط الأمم الحية التى تجيد ليس فقط قراءة الأحداث بل مواجهة التحديات والمخاطر التى لا تزال تحدق بنا وبأمتنا، وفهم الحاضر انطلاقًا من الماضى واستشرافًا للمستقبل والسؤال هنا: هل يجيد العرب قراءة التاريخ، ثم وهذا هو الأهم: هل هم مستعدون اليوم لتقديم ما قدموه لأنفسهم غداة نصر أكتوبر.
إن روح أكتوبر قادرة على صنع الفارق هنا فى بلد الانتصارات، بإنهاء البيروقراطية المتجذرة فى تربتنا والتى أفرزت منذ زمن طويل إدارة ثقافة لا تتجاوب مع التطوير بقدر ما تعيق فرص التقدم، وهو ما أنتج مشكلات كبيرة تسببت فى تأخير الاستفادة المثلى من فرص الاستثمار وحرمان الوطن من فرص التقدم والإنتاج الحقيقي.
ذاكرة النصر ربما تخفت أو تذوى لكنها أبداً لا تموت بل تبقى كامنة تنتعش حيناً وتتوارى أحياناً.. لكنها لا تنسى أبدا كيف كسرنا غطرسة إسرائيل وجيشها الذى زعم أنه لا يقهر.. والدليل ما يرويه تاريخنا القريب حين انتفض هذا الشعب مستدعياً مخزونه الحضارى وروحه الحضارية لتخرج ملايينه للشوارع، رافضة حكم جماعة الإخوان الفاشية ولم ترجع إلا بإزاحتها عن حكم مصر .. هنا أراد الشعب فاستجاب الجيش ثم استجمع الاثنان هذه الإرادة فى حفر قناة جديدة ومشروعات قومية عملاقة انتظرنا أن تكون منصة إطلاق متجددة لروح أكتوبر لكننا للأسف غرقنا فى التراخى واللامبالاة والجدل التافه وظهرت فينا روح كسولة ليست روحاً مصرية أصيلة و لا تمت لنصر أكتوبر بأى صلة.
فماذا حدث إذن.. ألسنا من صنع ثورة 30 يونيو بكل نجاحاتها.. ومن أنجز القناة الجديدة بكل صعوباتها.. ومن أصلح منظومة الكهرباء بكل تهالكها.. ومن أقام شبكة طرق عملاقة نباهى بها الدنيا.. ومن أصلح منظومة الخبز الذى طالما قاتل بعضنا بعضاً لأجل رغيف سقط بسببه ضحايا وشهداء.. ؟!
سر النجاح هل يكمن فى روح العسكرية المنضبطة التى لا تقبل بالنجاح بديلاً.. وتأبى التراخى والتواكل والعشوائية والروتين العقيم الذى تسبب فى مآسينا؟!
ظنى أن الروح العالية هى سر كل نجاح لقواتنا المسلحة.. وكل إنجاز تحرزه فى زمن قياسى وجودة عالية.. وهى سر بقاء وتماسك هذه الدولة والحفاظ على مقومات وجودها حتى اليوم.. فإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا نستنسخ أو نستلهم أو نبث هذه الروح فى كل موقع وكل مشروع وكل مؤسسة من مؤسسات الدولة.. حتى لا نضيع طاقات وجهوداً هائلة بسوء الإدارة وغياب الإعداد والتدريب والمحاسبة؟!
أليس ما يهدد وجود أمتنا أكبر من أن نغض الطرف عنه.. ألسنا فى مرمى نيران القوى الدولية التى تحارب فوق أرضنا معاركها هى وليس معاركنا نحن.. أليس ما يحاك بنا ويراد لنا من تقسيم وتقزيم واستلاب صريح لمقوماتنا ومواردنا أسوأ مما كنا عليه قبيل نصر أكتوبر العظيم.. أليست غطرسة نتنياهو المدعوم أمريكيًا وغربيًا وإصراره على إفشال كل محاولات وقف الحرب وحقن الدماء وإعادة الإعمار وإحلال السلام، كافية لقرع أجراس الخطر على مسامعنا نحن العرب حتى نفيق قبل أن نخرج نهائياً من التاريخ ونصبح أثراً بعد عين.. أليست الأخطار التى تهددنا هنا وهناك أدعى لاستعادة روح أكتوبر التى ألفت بين قلوب العرب جميعاً؛ فناصروا مصر وسوريا، وتسابقوا لإمدادها بالمقاتلين والعتاد والسلاح وبكل دعم لوجستى وسياسى لا محدود.. ألا يكفى ما يحاك ضد أمتنا لاستنهاض روح العروبة والإرادة المنتصرة.. ماذا ننتظر بعد الذى رأينا بأعيننا من ضياع دول وتجهيز المسرح لاستدراج أخرى لفخ معارك مفتعلة للإجهاز على ما تبقى من جيوشنا ودولنا التى نجت من فخاخ الخريف العربى ؟!.