فى الساحل الأفريقى يتحوّل الإرهاب إلى مشروع اقتصادى تديره جماعات مسلحة تستغل غياب الدولة لإنشاء سلطات بديلة
فى عالمٍ يموجُ بالأزمات، ويغلى على نيران الصراع بين العدالة والهيمنة، نقدم فى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف قراءةً دقيقة لمشهدٍ عالمى آخذٍ فى التشكّل؛ مشهدٍ تتقاطع فيه التحولات السياسية مع الموجات الفكرية الجديدة التى تهزّ موازين القوي، لتُعيد طرح السؤال الجوهري: إلى أين يمضى العالم؟
أولاً: القضية الفلسطينية.. الكيان الصهيونى بين عزلة متزايدة وانكشاف أخلاقي
شهدت الأيام ما بين 27 سبتمبر و3 أكتوبر 2025 تحولات غير مسبوقة فى مسار القضية الفلسطينية، إذ بدأت الأصوات المعارضة داخل الكيان الصهيونى نفسه تتعالي، منتقدة سياسات حكومته العدوانية والداعية إلى الاعتراف بدولة فلسطين كحلٍّ واقعى وأخلاقي.
فقد شكّل تصريح آمى آيالون، رئيس جهاز «الشاباك» الأسبق، نقطة انعطاف نادرة فى الوعى الصهيونى حين وصف حرب غزة بأنها «غير ضرورية وغير عادلة»، واعترف ضمنيًا بمسؤولية كيانه عن المأساة الإنسانية التى أزهقت أرواح أكثر من 65 ألف فلسطيني.
هذا التحوّل الداخلى يتقاطع مع رؤية مرصد الأزهر الذى طالما أكد أن التطرف لا يولد من فراغ، بل من رحم الظلم وغياب العدالة.
وفى الخارج، يعيش الكيان الصهيونى عزلةً دبلوماسية غير مسبوقة. فقد تدهورت علاقاته بدول أمريكا اللاتينية بعد أن طردت كولومبيا البعثة الإسرائيلية وألغت اتفاقية التجارة الحرة، واصفًا رئيسها ما يجرى فى غزة بأنه «جريمة دولية». وعلى الجانب الأوروبي، أوقفت إسبانيا تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، بينما صوّت حزب العمال البريطانى لصالح تقرير أممى يؤكد ارتكاب «إبادة جماعية» فى غزة.
وفى مشهد رمزى عميق، انسحب عشرات الدبلوماسيين من قاعة الأمم المتحدة أثناء خطاب نتنياهو، فى رسالة عالمية مفادها أن الخطاب العسكرى الصهيونى استنفد مبرراته، وأن العالم لم يعد يحتمل تبرير الاحتلال باسم «الأمن».
أسطول الصمود… لحظة إنسانية هزّت الضمير العالمي
اعتراض القوات الإسرائيلية لأسطول «الصمود» الإنساني، الذى ضم أكثر من 500 متطوع من 48 دولة، لم يكن مجرد حادث بحري، بل نقطة تحوّل فى الوعى الدولي. فقد أعاد النقاش حول مشروعية حصار غزة، وأجبر الحكومات الأوروبية على مراجعة سياساتها تجاه تل أبيب.
لقد أثبتت هذه الحادثة أن الضمير الإنسانى العالمى بدأ يستعيد صوته، وأن سردية «محاربة الإرهاب» لم تعد قادرة على تبرير جرائم الاحتلال.
ثانيًا: خارطة التطرف العالمي… حين يصبح العنف لغة مشتركة
لم يعد التطرف حكرًا على منطقة أو أيديولوجيا بعينها، بل تحول إلى ظاهرة عابرة للحدود والقيم.
من واشنطن إلى دارفور، ومن الشرق الأوسط إلى الساحل الأفريقي، تتشكل خريطة جديدة للعنف تتغذى من الإحباط، وغياب العدالة، وانهيار الثقة فى المؤسسات.
الشرق الأوسط: ما بعد الإرهاب
فى العالم العربي، تتقاطع الحروب والصراعات مع أزمات الشرعية والتنمية. فقد حذّر مرصد الأزهر من أن مناطق مثل دارفور قد تتحول إلى «معامل مفتوحة للتطرف»، بينما تهدد الهجمات الطائفية فى سوريا بتفكيك ما تبقى من بنية الدولة.
الرسالة واضحة: لا يمكن محاربة التطرف بالسلاح وحده، بل ببناء عدالة اجتماعية شاملة تعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.
الولايات المتحدة: تطرف اليسار يواجه اليمين
المفارقة الجديدة فى المشهد الأمريكى أن العنف الإيديولوجى لم يعد حكرًا على اليمين المتطرف. فصعود القومية المحافظة أفرز رد فعل عنيفًا من فصائل يسارية راديكالية، فى ما يسميه الباحثون «نظرية التحول العدواني».
لقد تحوّل الخلاف السياسى إلى صراع وجودى بين التيارات، ما يجعل التطرف اليوم أداة تعبئة فى يد الجميع.
إفريقيا: الإرهاب كاقتصاد جديد
فى الساحل الإفريقي، يتحوّل الإرهاب إلى مشروع اقتصادى تديره جماعات مسلحة تستغل غياب الدولة لبناء سلطات بديلة. ومع انسحاب القوات الأجنبية، باتت المعركة الحقيقية هى بناء مؤسسات شرعية واقتصادات بديلة تحرم التطرف من بيئته الخصبة.
ثالثًا: الإسلاموفوبيا… التطرف الناعم فى قلب أوروبا
فى أوروبا، يتخذ التطرف شكلاً جديدًا لا يلبس عباءة العنف المسلح، بل يتسلل إلى الوعى العام عبر خطاب الكراهية.
فمع تزايد الهجمات الفردية والتوترات الاجتماعية، بدأت قطاعات واسعة من الرأى العام الأوروبى تتبنى خطابات تمييزية ضد المسلمين والمهاجرين تحت ذريعة «الأمن وحماية الهوية».
الخطر هنا لا يأتى من الجماعات المتطرفة فحسب، بل من الانزياح البطيء للوسط السياسى نحو التطرف الناعم، حيث يصبح خطاب الإقصاء مقبولاً، بل ومبررًا أحيانًا.
وهنا يحذر مرصد الأزهر من أن الإسلاموفوبيا هى الوجه الآخر للتطرف ذاته، وأن مواجهتها تتطلب تحالفًا فكريًا وثقافيًا يعيد التوازن إلى المجتمعات الأوروبية ويحمى قيم التعايش التى قامت عليها.
فى الختام لا نقول سوى إن العالم بين خيارين
فإما عدالة تفتح الطريق إلى السلام، أو ظلم يفتح الأبواب أمام التطرف.
فالعزلة التى يعيشها الكيان الصهيوني، وتصاعد التطرف الناعم فى الغرب، وعودة العنف الإيديولوجى شرقًا وغربًا، كلها مؤشرات على أن الوعى العالمى يقف عند مفترق طرق.
إنها ليست معركة سلاح فقط، بل معركة وعى وضمير، بين من يرى العالم فضاءً للكرامة والمساواة، ومن يراه ساحة للصراع والانتقام.









