منذ أن وُلد الوعى العربى فى قلب القاهرة، ومصر تقولها بصوت لا يعلوه صوت: لا لتصفية القضية الفلسطينية، لا للتفريط فى الحقوق، لا للعبث بمستقبل الأمة.
ثلاث لاءات محفورة فى الذاكرة، ليست شعارًا عابرًا، بل عقيدة وطنية تشكلت عبر عقود من النضال والمواقف، دفعت فيها مصر الثمن غاليًا من دم أبنائها ومواردها واستقرارها، لكنها لم تتراجع لحظة عن موقعها كدرع وسند للفلسطينيين، وكضمير حى للعالم العربى حين يصمت الآخرون.
لم تكن مصر يوماً مراقباً على جراح فلسطين، بل كانت وما زالت قلبها النابض وملجأها الآمن وصوتها فى المحافل الدولية. فمنذ اللحظة الأولى لانفجار المأساة عام 1948، كانت مصر فى المقدمة: أرسلت جنودها إلى الميدان، واحتضنت اللاجئين، وفتحت حدودها للجرحى والمشردين. ومع كل حرب أو هدنة، كانت القاهرة هى التى تكتب الفصول الأولى والأخيرة، لا بوصفها وسيطاً، بل بوصفها شقيقة كبرى تعرف أن فلسطين ليست قضية حدود، بل قضية وجود.
وعبر العقود، تغيرت الأنظمة وتبدلت السياسات، لكن الثابت الوحيد كان موقف مصر. فى ستينيات القرن الماضي، حين كان العالم منقسماً بين معسكرين، اختارت مصر أن تكون الصوت الحر الذى لا يساوم على الحق العربي. وفى سبعينياته، حين اندفع البعض نحو التسويات المنقوصة، رفعت مصر راية «السلام العادل» الذى لا يقوم إلا على استرداد الأرض وضمان الحقوق. وحتى فى لحظات العزلة والضغط، ظلت القاهرة تفتح أبوابها للفصائل الفلسطينية المتناحرة، تؤمن بأن ما يجمعهم أكبر من الخلاف، وأن لا صوت يجب أن يعلو فوق صوت الوطن الفلسطيني.
وحين جاءت السنوات العصيبة الأخيرة، وانطفأت بوصلة الحقيقة لدى كثيرين، أعادت مصر تعريف دورها من جديد، لا بالشعارات، بل بالفعل على الأرض. فكانت الوسيط الأمين الذى لا ينحاز إلا للإنسان الفلسطيني، والمفاوض الصلب الذى يعرف أن الحل العادل لا يُولد من رحم القوة، بل من ضمير التاريخ.
تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي، عادت مصر لتؤكد أن القضية الفلسطينية ليست ورقة فى يد أحد، بل مسئولية أخلاقية وتاريخية لا يمكن التخلى عنها. ومع كل تصعيد فى غزة، كانت القاهرة هى التى تبادر بالتهدئة، وتنسق مع الأطراف كافة لوقف نزيف الدم، ثم تبدأ إعادة الإعمار وتقديم الدعم الإنسانى دون ضجيج ولا منّ.
ولم يكن ذلك جهدًا فرديًا، بل عملاً مؤسسيًا متكاملاً تقوده أجهزة الدولة وفى مقدمتها وزارة الخارجية المصرية والمخابرات العامة، اللتان تحركتا فى كل اتجاه لإبقاء شعلة الأمل مشتعلة وسط ظلام السياسة. فبين جولات مفاوضات متواصلة، ومبادرات لإعادة الوحدة الفلسطينية، ومواقف ثابتة فى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ظل الصوت المصرى هو الأكثر اتزانًا وعقلانية، لا يُغريه الصخب، ولا يساوم على الحق.
لقد قالت مصر لاءاتها الثلاث للتاريخ، وهى تعلم أن ثمنها باهظ، لكنها أيضًا تدرك أن الأمم تُقاس بمواقفها فى اللحظات الصعبة، وأن التنازل عن المبادئ مرة واحدة كاف لفقدان المكانة إلى الأبد. فحين وقف الرئيس السيسى مرارًا ليعلن أن «السلام لن يتحقق إلا بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية»، لم يكن يكرر كلمات دبلوماسية، بل كان يجدد عهدًا قطعته مصر على نفسها منذ عهد جمال عبدالناصر، وواصلته فى مراحل السادات ومبارك وامتد اليوم فى عهد يؤمن بأن الأمن القومى المصرى يبدأ من حدود فلسطين لا من أسوار القاهرة.
من معارك العريش إلى مفاوضات القاهرة، ومن دماء الجنود على أرض غزة إلى الجسور الجوية التى تحمل الدواء والغذاء، كانت مصر دائمًا فى قلب الحدث. لا تسعى لمجد سياسي، ولا تركض وراء أضواء الإعلام، بل تعمل بصمت الكبار وإيمان العارفين بأن التاريخ لا يكتب بالأقوال بل بالأفعال. فكل طفل فلسطينى عبر معبر رفح يجد حضنًا دافئًا، وكل بيت أعادت مصر بناءه بعد قصف غاشم، هو شاهد جديد على أن العروبة ليست شعارًا، بل مواقف.
واليوم، بينما تتبدل التحالفات ويختلط صوت المصلحة بصوت العدالة، تظل مصر وحيدة فى اتزانها، رافعة راية العقل والحكمة، ثابتة فى لاءاتها: لا للتفريط، لا للتطبيع المجاني، لا للصمت على الظلم.
لاءات مصر ليست صرخة غضب، بل درس فى الوفاء، تشهد عليه الوثائق والميادين والدماء. فكما حفظت مصر هوية الأمة فى زمن التشرذم، تحفظ اليوم كرامتها فى زمن الانكسار، لتبقى كما كانت دائمًا: ضمير العروبة الذى لا يخون، وصوت التاريخ الذى لا يصمت.