هناك شيء فى هذا الوطن يحتاج إلى عملية إنقاذ عاجلة. وليس المقصود هنا اقتصادًا يئنّ أو سياسة تلاطم امواج الاقليم، بل الإنسان المصرى ذاته؛ هذا الكيان الذى كان يومًا العمود الفقرى للدولة الوطنية، فتحوّل تدريجيًا إلى متفرج مرتبك أو ناقم صامت أو شاب يبحث عن وطن بديل على «التيك توك» و»الانستجرام». نحن أمام حالة تستدعى التدخل الفوري، لا بالمسكنات، بل بالجراحة الوطنية الكبري. فالدولة التى تبنى مدنًا جديدة وتشُقّ طرقًا وتؤسس مصانع، تحتاج أيضًا إلى أن تبنى وعيًا جديدًا يوازى هذا التقدم المادي، لأن أعظم الجسور لا قيمة لها إن لم تعبر فوقها العقول، وأفخم المدن لا معنى لها إن لم يسكنها الوعى والانتماء.
جيل اليوم وُلد فى عالم مفتوح، تحكمه الشاشات وتوجّهه الخوارزميات. جيل يتلقى معلوماته من مقاطع لا تتجاوز ثلاثين ثانية ويفكر بمنطق الترند، جيل لم يعرف ما معنى أن تقف طوابير الدفاع المدنى أمام السيول، ولا كيف تُبنى السدود بسواعد المصريين، ولا من الذى روّى تراب سيناء بدمه. هذا الجيل لا يُلام وحده، فالدولة بكل مؤسساتها حاولت ولم تنجح فى أن تفتح له نوافذها، عندما تركت الإعلام الحقيقى فى العراء دون غطاء معلوماتي، والتعليم ينكمش داخل الكتب، والقدوة تتوارى خلف المكاتب، فصار الشاب فريسة لعالم رقمى يُعيد تشكيل وعيه دون أن يدري. وهكذا بدأ الوطن يخسر فى معركة الإدراك قبل أن يخسر فى أى ميدان آخر.
عملية الإنقاذ العاجلة تبدأ من استرداد عقول الشباب قبل أجسادهم. يجب أن نعيد تعريف الوطنية لا على أنها شعارات تُردد فى الصباح، بل إن تكون تجربة يومية يعيشها الطالب والعامل والمزارع والجندى والمذيع. كيف يتحقق ذلك؟ ببساطة عبر الاحتكاك المباشر بالدولة. يجب أن يلمس الطالب مؤسسات وطنه، أن يرى جيشه عن قرب، أن يعرف أن الجندى الذى يحرس الحدود ليس صورة فى نشرة الأخبار بل إنسان مثله يعيش لأجل هذا التراب. ولهذا أطالب بأن تُفتح القواعد العسكرية ومعسكرات الأمن أمام طلاب المدارس والجامعات فى زيارات منظمة، يرون ويتعلمون ويفهمون معنى الانضباط والتضحية والنظام والمهنية. عندها فقط سيشعر كل شاب أن الجيش ليس مؤسسة، بل هو نحن.
لا يمكن بناء الانتماء من داخل الفصول فقط. يجب أن تُفتح المزارع والمصانع والمشروعات القومية الكبرى أمام الطلاب والشباب. أن يزوروا مشروع توشكى ويروا بأعينهم كيف يُزرع القمح فى الصحراء، وأن يدخلوا إلى مصانع السيارات والطاقة ليدركوا كيف تتحول الفكرة إلى منتج يحمل شعار «صُنع فى مصر». نحن بحاجة إلى أن نُشرك الشباب فى معركة التنمية لا كمتفرجين بل كمقاتلين فى صف الوطن المدني. كل زيارة ميدانية هى درس وطني، وكل حكاية من مهندس أو ضابط أو مزارع هى مادة إعلامية أقوى من ألف برنامج توعوي.
لكن لا يمكن لهذه العملية أن تنجح وسط البيروقراطية التقليدية. نحن بحاجة إلى ما أسميه «القيصر الوطني»؛ بسلطات تنفيذية واضحة يتفرغ لقيادة مشروع الوعى والانتماء بعيدًا عن الروتين والارتباك الإداري، شخص يملك الشجاعة لاتخاذ القرار دون انتظار التعليمات ويُحاسب فقط على النتائج. هذا القيصر يقود خطة وطنية متكاملة تشترك فيها كل الوزارات: التعليم، الدفاع، الداخلية، الشباب، الإعلام، الثقافة، والاتصالات، بحيث تؤدى كل وزارة دورها فى مشروع «استعادة الإنسان المصري» تحت قيادة موحدة تمنع التكرار وتغلق باب العبث الإداري.
ولن تكتمل عملية الإنقاذ دون إعلام وطنى غير مخترق من أبناء الطبقات الانتهازية. نحن نحتاج إلى خطاب جديد يربط بين الواقع والشاشة، بين الميدان والوجدان. يجب أن نُقدّم للشباب وجوهًا حقيقية من الميدان: الطبيب فى مستشفى قصر العيني، المجند فى رفح، المزارع فى المنيا، المهندس فى العاصمة الجديدة. الإعلام لا يجب أن يصرخ بالشعارات، بل إن يحكى القصص الحقيقية التى تصنع الانتماء فى القلوب. فالدراما الوطنية ليست مسلسلاً يُعرض فى رمضان، بل سلوكًا يوميًا يظهر فى نشرات الأخبار، وفى كل حوار تليفزيوني، وفى كل تغريدة مسئولة.
نحن بالفعل أمام عملية إنقاذ عاجلة للروح الوطنية، والنجاح فيها لا يُقاس بعدد الكلمات، بل بعدد القلوب التى تعود إلى حضن الوطن. الإنقاذ يبدأ عندما نُقرر أن الوطن ليس فكرة فى المناهج بل تجربة تُعاش كل يوم. حينها فقط سنرى جيلاً جديدًا لا يرفع علم بلاده فى الاحتفالات فقط، بل يحمله فى قلبه وهو يزرع ويقاتل ويبتكر ويبني.