بعد أشهر قليلة من قيام ثورة 23 يوليو.. كان قائدها الحقيقى جمال عبدالناصر يفرج عن عدة أفلام منعتها رقابة الملك فاروق أبرزها فيلم «الله معنا» الذى لعب بطولته عماد حمدى مع فاتن حمامة وتدور أحداثه عن حرب فلسطين عن البطل الذى يفقد ذراعه فيها ثم يعود إلى الوطن لكى يكمل نضاله فى الحياة.
وقبلها أمر بعرض فيلم «مصطفى كامل» إخراج أحمد بدر خان والأكثر من ذلك أمر بتغيير قوانين رقابة المصنفات الفنية.. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد.. فقد كلف الفنان فريد شوقى بعمل فيلم «بورسعيد» لفضح العدوان الثلاثى على مصر 1956 إيماناً منه بدور السينما والفن عموماً.
وعندما منع أحد ضباط الثورة أغانى أم كلثوم بحجة أنها غنت للملك فاروق كان جوابه ساخراً: كده.. طيب اهدموا الأهرامات لأنها من زمن قبل فاروق.
وعاد صوت أم كلثوم يمضى مع الثورة لحظة بلحظة.. ثم كان موقفها الشهير بجمع الملايين للمجهود الحربى بعد نكسة 67.. ولما مات عبدالناصر مرضت «ثومة» مرض الموت وان قاومت بعده لعدة سنوات.
فى عهد جمال عبدالناصر تم إنشاء مصلحة الفنون 1956 برئاسة الكاتب الكبير يحيى حقي.. ثم كانت فكرة إنشاء المعاهد الفنية المتخصصة التى شكلت فيما بعد أكاديمية الفنون ثم دخلت الدولة على خط الإنتاج السينمائى المباشر أو غير المباشر من خلال المؤسسة المصرية العامة للسينما والإذاعة والتليفزيون 1963 وكانت تضم أربع شركات وخلال 8 سنوات قدمت المؤسسة 159 فيلما.. منها ما جاء فى مئوية السينما كأفضل الافلام ويكفى أن نذكر منها ما يقرب من 30 فيلما لاتزال حتى وقتنا هذا من روائع السينما المصرية البوسطجي/ شيء من الخوف/ المومياء/ الارض/ الاختيار/ الزوجة الثانية/ القضية 68/ القاهرة 30/ الحرام/ مراتى مدير عام/ ميرامار/ غروب وشروق/ المستحيل/ الجبل/ المتمردون/ يوميات نائب فى الارياف وكان الواضح الاهتمام بالاعمال الادبية.. وهو ما لم يكن بارزا بالشكل المناسب قبل سينما القطاع العام التى شاركت كذلك حتى بعد وفاة عبدالناصر من دعم افلام القطاع الخاص وتقديم الجوائز التى تشجع المنافسة بين الفنانين.
هل هو عتريس
الافلام التى ظهرت بعد وفاة عبدالناصر وانتقدت عهده كله واعتبرته صورة للديكتاتورية الكاملة «الكرنك/ ثرثرة على النيل/ قانون ايكا/ زائر الفجر/ احنا بتوع الاتوبيس.. وغيرها نست ان الزعيم هذا.. عندما اثار البعض ضجة هائلة حول فيلم «شيء من الخوف» بطولة محمود مرسى وشادية واخراج حسين كمال.. وهمسوا بان شخصية «عتريس» فى الفيلم المأخوذ عن قصة لثروت اباظة «المنحاز للاقطاع والباشوات».. هى شخصية جمال فأمر باحضار الفيلم وشاهده.. ثم قال كلمته:
لو كنت انا مثل عتريس.. استحق الحرق فعلا! ثم تكرر اللغط والجدل حول فيلم «ميرامار» اخراج كمال الشيخ وهو نفس المخرج الذى عاد بعد ذلك وقدم فيلم «غروب وشروق» وسبق ذلك فيلم «الرجل الذى فقد ظله» والذى جرى عرضه بعد نكسة 67 بأشهر قليلة والفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب الصحفى «فتحى غانم» الذى تخصص فى سرد خبايا الصراعات الصحفية ايام الثورة وما قبلها وقدم ايضا مع زميله صلاح حافظ المسلسل الرائع «زينب والعرش» بطولة محمود مرسى وكمال الشناوى وحسن يوسف وسهير رمزى وعبدالمنعم ابراهيم وصلاح قابيل واخرجه يحيى العلمي.
ومن حق الفنان ان يرى الشيء الواحد من زوايا عديدة وأن يغير وجهة نظره ويعترف بذلك فى شجاعة.. وهل كانت هناك شجاعة اكثر مما ظهر عليها جمال عبدالناصر نفسه عندما ظهر على شاشة التليفزيون بعد ايام من نكسة 67 لكى يعترف بانه يتحمل المسئولية كاملة ويقرر التنحى عن السلطة وان يعود إلى صفوف الجماهير.. لكننا وقتها خرجنا إلى الشوارع ورأيت أبى لاول مرة يبكي.. وقطعنا ونحن الصبيان الصغار الكيلو مترات على الاقدام نهتف مع الكبار ونطالب بعودة الرئيس.. وكدب من قال ان الاتحاد الاشتراكى اخرجنا من بيوتنا ونحن وقتها لا نعرف يعنى ايه اتحاد ويعنى ايه اشتراكي.. فقط نحن أهل البلد وناسها نتوحد لاجل عيونها جميعا ونفتديها بالغالي.. لاننا نؤمن ان هزيمة الجيش فى حرب لم يدخلها لا تعنى ابداً هزيمة الشعب الذى علم الدنيا من قبل التاريخ كيف يكون الكبرياء وتكون الكرامة حتى اعترفت الدنيا كلها بأن مصرنا هى الوحيدة على ظهر الارض التى تمتلك شعبا هو جيشها.. وجيشا هو شعبها فى ارتباط إلى يوم الدين فلا يخلو بيت من بيوتنا الا وفيه ومنه من يرتدى البدلة الميرى او خدمها.
كاميرا الزعيم
كان ناصر محباً للتصوير.. وفى اوقات فراغه يشاهد بعض الافلام المصرية والعالمية.. وما المدهش فى ذلك وله كتاباته يعنى بدأت فى صباه وشبابه وكان قارئاً جيداً لكل ما يحدث وما ينشر فى الصحف والمجالات والكتب.. واعترف بأن كتاب توفيق الحكيم «عودة الوعي» ألهمه فى التخطيط للثورة وما كتبه بعد ذلك بنفسه فى مسرحية «ثمن الحرية» التى لم يكمل كتابة قصتها وقد تحولت إلى فيلم ومسرحية اكملها عبدالرحمن فهمي.. وعندما اعترضت الرقابة فى عهده على فيلم «ميرامار» طلب ان يشاهده والقصة من تأليف نجيب محفوظ لكن عند تحويلها إلى فيلم بسيناريو لممدوح الليثى عدل وبدل فى الشخصيات وبدلاً من «عامر وجدي» فى الرواية يصبح الباشا العجوز «طلبة» الذى يسخر بشكل مباشر من ثورة يوليو ورجالها حيث قال فى احد المشاهد: فلان ده زى الثورة اخدت اللى ورانا واللى قدامنا»«.. وكان فى ذلك يشير إلى عجزه وقد بلغ من الكبر عتيا ولعب يوسف وهبى هذا الدور ليكون اول اقطاعى يظهر على شاشة السينما بعد 17 سنة من ثورة يوليو.. والليثى استمر فى الهجوم على عبدالناصر فى كل ما عمل بعد ذلك لكنه للامانة دعم فيلم «ناصر 56» ووقف معه بكل قوة ولولاه ما ظهر للنور وهو اهم عمل تناول سيرة عبدالناصر ومواقفه وتفوق فى ذلك على فيلم «جمال عبدالناصر» للمخرج انور القوادرى بطولة خالد الصاوى ومسلسل «ناصر» للكاتب يسرى الجندى واخراج باسل الخطيب وبطولة مجدى كامل ويكفى ان جمال عبدالناصر بعد مشاهدة فيلم «ميرامار» بنفسه قال:
> لو احنا عصابة «يقصد مجلس قيادة الثورة» من حق الناس تحرقنا وكأنه يكرر تقريبا نفس التعليق الذى ردده بعد مشاهدة فيلم «شيء من الخوف».. وهو كلام يكشف عن ثقة الرجل فيما قدمه لبلاده وبالتأكيد هناك سلبيات لا يخلو منها اى عصر لكن التطور الصناعى ومجانية التعليم ونهضة المسرح والسينما والاذاعة والتليفزيون والفنون عموما وما قدمته الدولة للفن واهله من تكريم وحفاوة.. يعكس الرغبة الصادقة والنوايا الخالصة للنهوض بالبلاد.
وعندما قدم اليه وزير الثقافة ثروت عكاشة خطة تطوير السينما طلب منه ان يعرضها على مجلس الوزراء حتى يأخذ قراره على ضوء ذلك وهو ما جرى فعلا.. وهو ما يعنى عدم انفراده بقرار هو من اكثر الناس اقتناعاً به.
والملاحظ ان معظم الافلام التى هاجمت عبدالناصر فى عهده مباشرة او غير مباشرة اخرجها شبان كلهم حماس.. واغلبهم عاد يمجد فى الثورة وعبدالناصر.. وعندما قالوا للفنان نور الشريف المنحاز للناصرية كيف تلعب بطولة فيلم الكرنك الذى يهاجم جمال وعصره كان جوابه: انا ممثل يجب ان يتبنى كافة وجهات النظر مهما اختلفت معها تماما مثل صاحب اشهر محل كشرى وافضل من يصنعه لكنه لا يحب أكله بشكل شخصي!