لكل عصر من السلام والاستقرار مهندس يؤسس أركانه. فقد وجدت «الباكس رومانا» بفضل القوة العسكرية للرومان وشبكتهم الواسعة من الطرق. وبرزت «الباكس بريتانيكا» نتيجة سيطرة بريطانيا على قوة البخار وإنتاج الحديد وهيمنة البحرية على البحار. أما «الباكس أمريكانا» فقد نشأت من خلال خطة مارشال ونظام «بريتونوودز» والتحالفات الواسعة التى امتدت عبر قارات متعددة. وكل عصر «باكس» يصل فى النهاية إلى نهايته.
الانقسامات السياسية والرسوم الجمركية والضغط على الدول بدأت تباعد الولايات المتحدة عن بقية العالم. والآن أصبح المجال مفتوحًا لنوع جديد من الباكس؛ باكس يُبنى بشكل مشترك ويجمع بين القوة الرقمية، والمرونة المناخية، والاستقلالية فى الطاقة، والأمن الدفاعي، والثقة الثقافية، ضمن نظام عالمى يعتمد عليه العالم بأسره.
سيكون الهدف من الباكس الجديدة أن لا يصبح الاستغناء عنها ممكنا بالنسبة للعالم، فتعمل كقائدة للدول الباحثة عن الأمن والمعرفة والحلول. وسيكمن جوهر هذا النظام فى إنشاء مؤسسات دائمة تتجاوز التغيرات السياسية، فتخلق أساسًا طويل الأمد يزداد قوة مع مرور الوقت بدلًا من أن يخضع لدورات الانتخابات والسرديات الشعبوية.
أول متطلبات تحقيق هذه القيادة تكمن فى التقدم فى مجالات الأمن الغذائي، الأمن البيولوجي، والاستدامة المناخية. فتنمية الزراعة الحضرية، وزراعة المحاصيل المقاومة للجفاف، وتنويع سلاسل الإمداد الغذائي، وتطوير أنظمة الرى المتقدمة تُعد أساسية لقائد عالمى جديد. ويشمل ذلك أيضًا إنشاء أنظمة نقل متطورة، وبنوك للبذور، وأنظمة إنذار مبكر ورصد للتهديدات البيولوجية والبيئية المستمرة. كما أن تحديد المخاطر المناخية أمر جوهرى لبناء بنية تحتية قادرة على مقاومة الفيضانات والحرارة الشديدة والعواصف.
ثانى المتطلبات يأتى أمن الطاقة، والذى يجب أن يدعم مزيجًا من مصادر الطاقة النووية والمتجددة مع مرافق تخزين واسعة. ويجب أن تكون الأولوية لتأمين إمدادات المعادن الحيوية، وبناء تصنيع محلى للبطاريات والتوربينات والمفاعلات، بالإضافة إلى إنشاء مراكز متكاملة للصناعات الثقيلة والشحن.
ثالث المتطلبات هو الأمن الدفاعي. فالحفاظ على قوة دفاعية قوية وحديثة قادرة على المساعدة فى استقرار الأمن العالمى أمر أساسي. ويتطلب ذلك تمويل أنظمة دفاع متقدمة، ومنصات الدفاع السيبراني، وقدرات الذكاء الاصطناعي، وتشكيل تحالفات قائمة على الثقة المتبادلة وأهداف أمنية مشتركة تخدم دول العالم بأسره، لا مجرد عدد محدد منها.
العنصر الرابع الأساسى يركز على السيادة الرقمية وحماية الأمن السيبراني. فالمجتمع الحديث يعتمد على التكنولوجيا لدعم جميع جوانب حياتنا المعاصرة. ويتطلب إنشاء شبكة دفاع سيبرانى قيادة خبيرة وتقنيات متقدمة لحماية أنظمة الحكومة وكافة البنى التحتية التقنية. ويشمل ذلك تطوير قوة عاملة متخصصة عالية الكفاءة فى الأمن السيبراني، مع الاستفادة من الذكاء الاصطناعى وتقنيات الحوسبة السحابية لإدارة البيانات كأصل إستراتيجى حيوى تحت السيطرة الوطنية، مع وضع معايير صارمة لحماية البيانات.
الأولوية الخامسة تركز على تطوير المعرفة والابتكار. فسرعة التقدم التكنولوجى تتطلب تحويل البراءات بسرعة إلى منتجات قابلة للتسويق. ويجب أن يشمل ذلك دعم الشركات الناشئة فى مجال التكنولوجيا وتعليم مواد العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) وريادة الأعمال للطلاب منذ سن مبكرة، مع جعل الجامعات والمؤسسات البحثية محركًا لتوسيع الاقتصاد الوطني.
الأولوية السادسة تركز على إدارة المالية وأنظمة الحوكمة. يجب إنشاء صندوق تحول سيادى لدعم المبادرات التنموية طويلة الأمد، مع الحفاظ على حوكمة شفافة من خلال إتاحة الوصول إلى البيانات، واتباع معايير محددة، وإنشاء أنظمة صارمة لمكافحة الفساد.
تُعد هذه المجالات بمثابة الأولويات الأساسية التى يجب أن يركّز عليها النظام العالمى الجديد.
دعونى أكن واضحًا. أرى أن هذا النظام العالمى الجديد لن تهيمن عليه أمة واحدة، بل سيتم التفاوض بشأنه بين الولايات المتحدة والصين. وسيكون «باكسا مشتركا» بين قوتين عظميين، تتشاركان القيادة العالمية، كل منهما كشريك متساوٍ.