لم تعد الحروب تدار فقط بالدبابات والطائرات، بل بالخوارزميات والمنصات الرقمية، فى السنوات الأخيرة، نسجت الحكومة الإسرائيلية خيوط شراكة مع شركات تكنولوجية كبرى وعلى رأسها «جوجل»، ليس فقط لتأمين خدمات سحابية وذكاء اصطناعى تخدم مؤسساتها الأمنية، بل أيضاً لتصميم صورة جديدة أمام العالم، صورة تُخفف من حدة النقد الدولى وتعيد صياغة المفردات.
وحين تتحول المنصات التكنولوجية إلى أدوات دعائية فى نزاعات دامية، فإن الأمر يفرض سؤالا أخلاقيا: هل يجوز لشركة بحجم «جوجل» أن تُسخّر لتلميع حكومة متهمة بالإبادة الجماعية؟، هذا ما فجره عقد دعائى ضخم بقيمة 45 مليون دولار مع حكومة الاحتلال فى يونيو 2025، ليكشف هشاشة شعارات الحياد والمسئولية أمام ضغط المال والسياسة.
كشفت تقارير صحفية عن إنفاق ملايين الدولارات على حملات رقمية مدفوعة تستهدف جماهير بعينها، لتتحول كلمات مثل «مجاعة» إلى «معونات»، و«حصار» إلى «تعطّل فى التوزيع»، إنها ليست لعبة ألفاظ، بل محاولة منهجية لتقليل الضغط السياسى والحقوقى على تل أبيب.
إن قرار جوجل بقبول صفقة دعائية قيمتها 45 مليون دولار لصالح حكومة الاحتلال، يثير تساؤلات جوهرية حول دوافعها ومدى انسجامها مع سياساتها المعلنة.. فالشركة التى تدّعى التزامها بعدم التربح من الكراهية أو التضليل، سمحت بمرور حملة تنكر مجاعة موثقة أمميا، هذا يعكس إما تغليبا للربح والاعتبارات السياسية على المبادئ، أو غضَّ طرف متعمّدا عن مضمون الرسائل، مقابل صفقة مع دولة حليفة للغرب.
سياسات جوجل الإعلانية تنص على حظر المعلومات المضللة الضارة، لكن التطبيق يختلف عندما يتعلق الأمر بخطاب سياسى صادر عن حكومة رسمية، فالتصريحات الإسرائيلية التى أنكرت وجود مجاعة لم تُعامل كخداع صريح، بل كخطاب سياسى «قابل للتأويل». هذا القصور سمح للدعاية الحكومية بالمرور، رغم تناقضها مع تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة.
ويبدو أن جوجل كانت على علم تام بطبيعة الحملة، فالعقد نفسه وصفها بدعم «رسائل رئيس الوزراء نتنياهو»، كما أن الانتقادات الحقوقية والاتهامات الأممية وصلت إلى الشركة، بل إن أحد مؤسسيها ذهب إلى حد اتهام الأمم المتحدة بـ»معاداة السامية»، فى إشارة إلى انحياز ضمنى لرواية إسرائيل على حساب النقد الحقوقى.. الأخطر أن ذلك يكشف تناقضا صارخا مع قيم غوغل المعلنة، فهى انسحبت سابقا من مشروع Maven العسكرى مع البنتاغون بعد احتجاج موظفيها على استخدام الذكاء الاصطناعى فى الاستهداف العسكرى، وأكدت حينها أنها ترفض «الاشتغال بالحرب»، واليوم:سمحت لمنصاتها بأن تكون أداة لتبييض حصار وتجويع موثق أمميا، وهو ما وصفته منظمات حقوقية بأنه «تواطؤ مشين أخلاقيا».
لكن هذه الشراكة لم تمر بلا جدل، فموظفون داخل «جوجل» وشركات أخرى خرجوا فى احتجاجات، رافضين أن تُستخدم منتجاتهم فى صراعات عسكرية أو دعايات سياسية، وهنا يبرز السؤال الأخلاقى الكبير: من يراقب العلاقة بين دولة تبحث عن شرعية دولية، وشركات عملاقة تبحث عن أرباح هائلة؟
ما يجرى اليوم ليس شأناً عابراً، بل معركة على الوعى والذاكرة. وإذا كانت إسرائيل قد أدركت مبكراً أن الحرب على الصورة لا تقل خطورة عن الحرب فى الميدان، فإن العالم مطالب بكشف هذه الأدوات وحماية الحقيقة، حتى لا تتحول إلى مجرد إعلان مدفوع.