بقليل من «النظرة الثاقبة» والقراءة المتأنية والمتأملة لما يجرى فوق «مسرح الأحداث الممتد» لحرب إسرائيل على غزة..يمكن رصد ملامح خطة أو مخطط كبير «ناعم» تقوم به القوى الكبرى «الفاعلة والمؤثرة» فى مجريات «العمليات» الدائرة سواء على أرض «المعركة» أو على أراضى «الدعم والتمويل والمشاركة».. هدف هذه الخطة أو هذا «المخطط» هو ترميم «صورة» هذه القوى الكبرى أمام «أعين العالم» وذلك بعد «السقوط الكبير».. الأخلاقى والإنسانى والسياسى والعسكري.. الذى تعرضت له تلك القوى بسبب ماقامت به طوال أشهر «الحرب» لصالح «إسرائيل» ومجازرها المستعرة التى ارتكبتها.. ومازالت ترتكبها.. «فى غزة».. مجازر «وحشية إجرامية» ضد «شعب بأكمله».. لم يشهد «التاريخ» مثلها من قبل فى كافة الحروب.
هناك حدثان أو «مشهدان» رئيسيان جعلانى أتحدث أو أكتب عما أسميه أو أطلق عليه «المخطط الكبير» الذى تنفذه «الآن» هذه القوى الكبرى التى شاركت وما زالت تشارك «بوسائل شتي» فى أكثر الحروب «إجراماً وإبادة» وهى «الحرب على غزة «.. أقول هناك حدثان أو»مشهدان» رئيسيان جعلانى أتحدث عن هذا المخطط الذى تنفذه هذه «القوي» من أجل ترميم أو تجميل «صورتها» والتى شوهتها بل ودمرتها وكشفت حقيقتها «تلك الحرب الإسرائيلية الوحشية» التى لم تستثن بشراً ولا حجراً على أرض فلسطين.. الحدث أو «المشهد الأول» هو ما تابعته وشاهدته عبر وسائل الإعلام العالمية على مدى الأيام القليلة الماضية من «تضخيم متعمد» للتصريحات التى أدلى بها الرئيس الأمريكى جو بايدن حول وقف شحنة أسلحة متجهة إلى إسرائيل تضم «نوعاً معيناً» من القنابل الهجومية.. لقد تعامل «الإعلام العالمي» مع هذا «التصريح» وكأنه «حدث القرن».. حيث أخذ «المروجون» يرددون أن الخلافات بدأت تدب فى العلاقات «الإستراتيجية» الأمريكية الإسرائيلية بسبب الحرب على غزة وأن «واشنطن» غاضبة مما يمكن أن يحدث «للمدنيين» فى رفح الفلسطينية .. ثم الترويج لـ«تصريح بايدن» وكأنه وضع نهاية للمجازر المروعة التى تشاهدها «أمريكا» ليل نهار على مدى أكثر من سبعة أشهر دون أن تتخذ الإدارة الأمريكية طوال هذه المدة أى إجراء لوقفها بل كانت تفعل كل مايساعد على استمرارها وتوسيع نطاقها!!.
أما الحدث أو «المشهد الثاني» الذى أتحدث عنه فهو مايجرى فوق «الساحة الداخلية» فى إسرائيل.. فالذى يدقق جيدا فيما يدور هنالك يستطيع أن يكتشف أن الجميع هناك «بشكل مرتب ومنظم وممنهج» يريد أن يحمل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحده «فاتورة الحرب».. العسكرية والسياسية والأخلاقية.. وكأن المسئولين الإسرائيليين والمستوطنين ومختلف أطياف «كيان الاحتلال» ملائكة لا دخل لهم بالمجازر التى وقعت فى غزة وعموم أراضى فلسطين.. وفى ذلك بالطبع «محاولة بارعة» لترميم وتجميل صورة»إسرائيل» سواء ترميما يعالج الفشل والإخفاق الذريع لكافة المؤسسات الإسرائيلية ابتداءً من «السابع من أكتوبر» وحتى «هذه اللحظة» أو ترميما «مجتمعيا وإنسانياً» حتى لا تخسر إسرائيل «أكثر من ذلك» على المستوى الدولى خاصة بالنسبة للشعوب والجهات غير الرسمية فى أوروبا وأمريكا «الحلفاء التقليديين» للكيان الإسرائيلي..إننى أنظر لما يجرى داخل إسرائيل «الآن» من حراك للشارع والمعارضة ضد «حكومة نتنياهو» وكأنه تحرك «عميق» للحفاظ على إسرائيل وصورتها الذهنية «الراسخة»لدى «الآخرين»!!
لتوضيح «وجهة نظري» أو «رؤيتى التحليلية» حول محاولة «القوى الكبري» تنفيذ مخطط «تجميل الصورة» بعد «السقوط الكبير» فى مجازر غزة.. أعرض بعض المحاور والركائز الأساسية التى استدعتنى للرصد والتحليل ثم بعد ذلك أقوم بالتعليق عليها.. وأول هذه المحاور والركائز فى ذلك هو «تصريح» الرئيس بايدن والذى بسببه أقام «الإعلام الأمريكى والأوروبى والإسرائيلي» العالم ولم يقعده طوال أسبوع.. فما هو الذى قاله بايدن ؟!.. قال الرئيس الأمريكى خلال لقاء أجرته معه شبكة «سى إن إن» الإخبارية قبل أسبوع عن الاجتياح الإسرائيلى لمدينة رفح الفلسطينية: «أوضحت أنهم إذا دخلوا رفح فلن أزودهم بالأسلحة التى استخدمت تاريخياً للتعامل مع رفح وللتعامل مع المدن» وأشار بايدن خلال «المقابلة» إلى أن «إسرائيل» استخدمت «الأسلحة الأمريكية» لقتل المدنيين فى غزة.. هذا هو نص ما قاله الرئيس الأمريكى والذى تم التعامل معه «أمريكيا وإسرائيليا وأوروبيا».. وكأنه «فتح عكا» أو تغيير إستراتيجى فى تاريخ العلاقات بين «واشنطن» و«تل أبيب» سيؤدى إلى إنهاء الحرب فى غزة على الفور.
إننى أرى أن «مضمون تصريح» الرئيس الأمريكى وإن كان يحتوى على «بعض التغير اللفظي» عما هو «معتاد» بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلا أن هذا لا يستحق كل هذا «التضخيم» الذى يبدو أنه متعمد ومنظم من أجل خدمة أهداف أخرى يكمن معظمها «خلف الستار البعيد».. لقد صار هذا «التصريح» المادة الرئيسية للإعلام الأمريكى والإسرائيلى والأوروبى على مدى الأسبوع الماضى بشكل «طغي» حتى على إقدام إسرائيل على جريمتها الجديدة في»رفح الفلسطينية».
هناك أسباب عديدة تؤيد «رؤيتي» هنا حول «التضخيم المتعمد» لتصريح بايدن عن «التهديد اللفظي» بمنع توريد «نوع واحد» من «الأسلحة الهجومية» إلى إسرائيل..ومن ثم الإشارة بقوة إلى مخطط «تجميل أو ترميم الصورة» ..من بين هذه الأسباب أنه لم تمض ساعات على التصريح الرئاسى الأمريكى إلا وخرجت «تصريحات أخري» من مراكز أخرى تشارك فى صنع القرار الأمريكى تؤكد العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل وعدم سماح «واشنطن» بتعرض أمن إسرائيل لأى خطر.. هذه التصريحات خرجت من البيت الأبيض ومن «البنتاجون» ومن وزارة الخارجية.. كلها تريد طمأنة «تل أبيب» وكأنها تقول إن «تصريح بايدن» يراد به شيء آخر!!.. من بين الأسباب أيضاً أنه وبالتزامن مع «حملة التضخيم العالمية» لتصريح بايدن تصادف قيام الجمعية العامة للأمم المتحدة بالنظر فى منح دولة فلسطين العضوية الكاملة.. فكانت الولايات المتحدة «أول الرافضين» وكذلك «أول المهددين» بتكرار استخدام «الفيتو» ضد «منح العضوية» فى حال إذا ما تمت إعادة عرض الموضوع على «مجلس الأمن».
من الأسباب التى تؤيد «رؤيتي» أيضاً.. أن ما قدمه الرئيس بايدن والولايات المتحدة لإسرائيل على مدى شهور الحرب السبعة الماضية. .وقبلها وبعدها.. والذى جعل غزة «كومة تراب» بعد استشهاد مايقرب من خمسة وثلاثين ألف مواطن وإصابة وتشريد وفقد مئات الآلاف الآخرين.. أقول إن ما قدمته «واشنطن» من أسلحة إلى «تل أبيب» جعلت غزة «هكذا».. لا حاجة بعده إذا لقنابل هجومية أو غير هجومية وما قاله أو صرح به الرئيس بايدن لا يهدد ولا يمس من قريب أو بعيد «أمن إسرائيل» أو سير «المجازر» الجارية فى غزة!!.. وفى هذه «النقطة» بالتحديد أسوق بعض التقارير التى أوردتها وسائل إعلام أمريكية وإسرائيلية وأوروبية عن صفقات السلاح «العلنية والسرية» التى قدمتها الولايات المتحدة إلى إسرائيل خلال الحرب والتى تجعل «تل أبيب» فى غنى عن أى نوع من الأسلحة «على الأقل لشهور طويلة قادمة»!!
فى مارس الماضي.. أعلنت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أن الولايات المتحدة أبرمت أكثر من مائة صفقة بيع أسلحة لإسرائيل منذ بدء الحرب على غزة «لم تعلن منها سوى عن صفقتين فقط».
.. وأضافت «واشنطن بوست» أن هذه الصفقات تتضمن آلاف الذخائر الموجهة والقنابل والدروع والأسلحة الصغيرة وغيرها من «الأسلحة الفتاكة».. أما صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية فقد نشرت أواخر ديسمبر الماضى أنه منذ بداية الحرب على غزة وصلت إلى «تل أبيب» مائتان وخمسين طائرة وسفينة شحن أمريكية تحمل مساعدات عسكرية إلى إسرائيل وأن هذه المساعدات تضمنت أكثر من عشرة آلاف طن من الأسلحة والمعدات العسكرية.. بالإضافة إلى قيام وزارة الدفاع الاسرائيلية بمشتريات إضافية من الولايات المتحدة وصلت قيمتها ما يقرب من ثلاثة مليارات دولار أمريكي.. يضاف إلى ما ذكرته «واشنطن بوست» و»يديعوت أحرونوت» أن تقارير أخرى تحدثت عن أن حجم المتفجرات التى استخدمها «الجيش الإسرائيلي» ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة «وهى متفجرات قادمة من أمريكا» يعادل حجمها أربع «قنابل ذرية» من تلك التى قامت الولايات المتحدة بإلقائها على «مدينة هيروشيما» اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية.. فهل بعد دلك تكون إسرائيل بحاجة ملحة لأسلحة أخرى؟!
إذا عدنا إلى «الساحة الداخلية» فى إسرائيل فى إطار محاولات ترميم وتجميل «الصورة» وإعادة «الهيبة المفقودة».. نرى أن الهدف الأبرز هناك هو تحميل شخص واحد فقط كل التكاليف وهو»نتنياهو» من أجل تسهيل عودة «الصورة الذهنية» التاريخية لإسرائيل.. «الرأس المدبر» هناك يريد الحفاظ على «إسرائيل».. عسكرياً وسياسياً.. والعمل على تحقيق أى قدر من الصورة «الإنسانية» أمام العالم.. هناك إرادة وعمل دءوب من أجل أن يظل فى بؤرة «السقوط الكبير» نتنياهو وبعض المتطرفين «فقط».. بحيث يبدو أن المشكلة أو الجريمة هى مشكلة وجريمة شخص أو بعض الأشخاص «وليس الشعب أو الكيان بأكمله».. هناك رغبة وإرادة لمحو كثير من الأحداث الكاشفة «من ذاكرة العالم».. من هذه الأحداث تلك التصريحات التى صدرت عن قادة سياسيين وعسكريين وجنود إسرائيليين بأن جيشهم يقاتل «حيوانات» وأن مسألة إلقاء قنبلة نووية على غزة أمر غير مستبعد.. يضاف إلى ذلك قصف المستشفيات وسرقة الموتى و»سلخ جلودهم» لإيداعها فى «بنك الجلود» فى «تل أبيب»..وقصف حضانات الأطفال الرضع بالطائرات والمدافع.. وسلاح الجوع.. وما يفعله المستوطنون من قتل وسلب ونهب لكل ما هو فلسطيني.. جرائم لا تعد ولا تحصى فعلها هؤلاء فى «الأقصى المبارك» ..أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.. مسرى حبيبنا وسيدنا محمد رسول الله «صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وسلم».. تحاول»الأيادى الخفية» الآن ترميم أو تجميل «صورة إسرائيل» لكى تظل «إسرائيل» هى «إسرائيل»!!
محاولات ترميم أو تجميل «الصورة» ليست فقط فى الولايات المتحدة و»إسرائيل» إنما هى تسير بشكل منتظم فى بعض الدول الأوروبية وكذلك المنظمات والمؤسسات الدولية والتى دعمت إسرائيل فى عدوانها على الشعب الفلسطينى وصمتت فى أبشع صور «التواطؤ» عن المجازر التى نفذتها وما زالت تواصل تنفيذها إسرائيل ضد «شعب بأكمله».. فهذه الدول والمنظمات بدأت بشكل لافت فى تغيير لهجتها فى التعامل مع مجريات الحرب حيث إن الذى يقارن بين التصريحات الرسمية لهذه الدول والمنظمات فى الأسابيع والأشهر الأولى من الحرب على غزة وبين تصريحاتها «الآن» يجد فارقاً كبيراً.. ففى البداية كان هناك انحياز صريح للعدوان الإسرائيلى أما الآن فبدأنا نسمع من مسئولى هذه الدول عن ضرورة وقف الحرب والجرائم الإسرائيلية و»حق الفلسطينيين» فى إقامة دولتهم المستقلة.
السؤال المهم الآن.. لماذا تلجأ هذه الدول وتلك «القوي» فى هذه «اللحظة الحالية» التى يعيشها العالم إلى محاولة ترميم أو تجميل «الصورة» التى كشفها «السقوط الدولى الكبير» فى غزة؟.. إننى أرى عدة أسباب وراء ذلك أعرض أهمها أو أبرزها.. «السبب الأول» فى تقديرى هو حجم الكارثة والمأساة الإنسانية التى وقعت فى غزة ووصفها كثيرون بأنها «وصمة عار» سجلها التاريخ على «جبين» العالم والقوى المشاركة والداعمة لإسرائيل فى حربها الوحشية.. فبعدما أفاقت هذه الدول وتلك القوى تحاول الآن فعل ما يمكن فعله لغسل يديها من آثار الجريمة!!.. أما السبب الثانى فيتمثل فى «الظرف الانتخابي» حيث إن بعض الدول مقدمة على انتخابات رئاسية أو برلمانية وتريد كسب الأصوات المتعاطفة مع الموقف الإنسانى لغزة.. وثالث هذه الأسباب هو الفشل والاخفاق الكارثى الذى منيت به إسرائيل فى الحرب مما جعل المؤيدين والداعمين والمشاركين يسارعون الآن إلى تبنى مواقف جديدة يأملون أن تساهم فى عدم «ربطهم» بالفشل المروع الذى سجله التاريخ.
فوق «بقايا إسرائيل وحلفائها».. والسبب الخامس والذى أرى أنه فى مقدمة هذه الأسباب جميعها هو الخشية من تحرك قضائى دولى غير متوقع سواء من قبل محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية ضد كل من ساعد إسرائيل بشكل أو بآخر فى حربها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني.
بعد كل هذا.. يبقى «السؤال الأخطر».. وماذا بعد «ترميم أو تجميل الصورة»؟!.. ما الذى ستقوم به هذه الدول والقوى إذا كتب لها النجاح فى الإفلات من «محرقة غزة».. إفلات سياسى وعسكرى وأخلاقى وقضائى؟!.. ما هو «الهدف التالي» لهذه القوى بعد ذلك.. وما هى طريقة وآلية تحقيقه؟!.. الإجابة الأكيدة والدقيقة هى أن الدول والقوى الكبرى الداعمة لإسرائيل لن تتوقف لحظة فى «إعادة الكَرة» وسلك «نفس الدرب» من أجل «الهدف الاستعمارى القديم» والذى تعد إسرائيل «رأس حربته ومشروعه الكبير»!!.. ندعو الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا «نعمة اليقظة» لكى نواصل اجهاض مخططات إسرائيل و»حلفها».