العلاقات بين الأديان نموذجًا ناجحًا لتعايش المجتمعات المتنوعة
أنشطة وفاعليات مشتركة هادفة بين أطياف المجتمع المختلفة
تأتى زيارة الرئيس السنغافورى لمصر كجزء من دعم العلاقات المتميزة خاصة أن البلدين على أرضية واحدة فى التعايش السلمى وحرص الدولة على دعم ثقافة الوئام الديني.. وعندما تعود إلى سنغافورة فقد أشرقت شمسُ الإسلام على أرض سنغافورة منذ أوائل القرن الرابع عشر الميلادى عن طريق التجارة البحرية التى ازدهرت بين أرخبيل جنوب شرق آسيا وأجزاء أخرى من آسيا؛ حيث تشير الأدلة التاريخية إلى أن الإسلام وصل على الأرجح إلى ما يُعرف اليوم بسنغافورة من خلال التجار المسلمين (العرب والهنود)، منتشرًا عبر أرخبيل الملايو، وفى الوقت الذى أسَّس البريطانيون مركزًا تجاريًّا عام 1819، كان الإسلامُ قد استقرَّ بالفعل بوصفه ديانة للسكان الملايو فى تلك المنطقة.
ترسخت المؤسساتُ الإسلامية فى تلك الفترة الاستعمارية، حيث سَعَتِ الإدارة البريطانية إلى إدارة المشهد العِرْقى والدينى المتنوع فى سنغافورة، وقد مثَّل إنشاء المجلس الاستشارى المحمدى عام 1915، تطورًا مهمًّا فى الإشراف المؤسسى على شئون المسلمين، وعلى مدار القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، شهد المجتمع المسلم فى سنغافورة تنوعًا مع توافد مسلمى جنوب آسيا، مندمجين مع مسلمى الملايو بشكل أساسي، وقد شُيِّدت فى تلك الفترة المساجدُ الرئيسية، التى لم يقتصر دَورها على العبادة فحسب، بل مثَّلت مراكز للمجتمع المسلم المتنامى باطراد، ويُعدُّ مسجد السلطان، الذى أُسِّس عام 1824 وأُعيد بناؤه عام 1928، رمزًا تاريخيًّا يشير إلى حضور الإسلام الدائم فى سنغافورة.
وبعد أن نالت سنغافورة استقلالها، تعاظم دَور الإسلام وتطوَّر ليواكب جهود بناء الأمة فى سنغافورة، فقد أدَّى تشكيل المجلس الإسلامى MUIS عام 1968 تحت قانون إدارة الشريعة الإسلامية إلى تركيز إدارة الشئون الدينية، ليشمل مجالات: إصدار شهادات الحلال، وإدارة الزكاة (التبرعات الخيرية)، والإشراف على التعليم الديني.
لقد أثَّرت التركيبة العِرقية المتنوعة داخل المجتمع المسلم بشكل كبير على ممارسة الإسلام فى سنغافورة، حيث مُزجت الثقافة المالاوية التقليدية كطقوس تُمارَس مع التعاليم الإسلامية الأرحب، وقد ظهر هذه الاندماج الثقافى فى طقوس عديدة، منها: احتفالات الأعياد الدينية، وطقوس الطعام، ومراسم الزواج، التى غالبًا ما تدمج عناصر متنوعة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
يتاح لمسلمى سنغافورة فرص التعليم العلمانى والديني، إضافة إلى مؤسسات أخرى كالمدارس الدينية التى تقدم مناهج متنوعة تدمج متطلبات التعليم الوطنى مع الدراسات الإسلامية، وهذا النهج المزدوج لا يؤهل الطلاب فحسب لتولى وظائف مدنية معاصرة، بل يؤصِّل معارفهم الدينية كذلك؛ مما يعمل على تخريج مواطنين متكاملين أصالةً ومعاصرة، كما أن التعددية الثقافية والوئام الدينى فى سنغافورة يتيح فرصًا كبيرة للمسلمين من أجل المشاركة فى الحوار بين الأديان إضافة إلى مشاريع مجتمعية تعاونية تسهِّل المنظمة الدينية البينية (IRO) السبل لمثل هذه المشاركات، التى تعزِّز التفاهم وتكرس الاحترام المتبادل بين المجتمعات الدينية المتنوعة فى سنغافورة، كما تمثل صناعة الحلال التى يشرف عليها MUIS، قطاعًا قويًّا لا يخدم السكان المسلمين المحليين فقط، بل يعمل أيضًا كبوابة إلى السوق الإسلامى العالمي، وتساعد هذه الفرص الاقتصادية رجال الأعمال والشركات المسلمة على الابتكار فى قطاعات الطعام، والتمويل، ونمط الحياة، كما يشارك مسلمو سنغافورة فى الحياة المدنية والتنمية المجتمعية، والعمل التطوعي، والاحتفالات والحوارات الوطنية، مما يساهم بشكل كبير فى تلاحم النسيج الوطنى لسنغافورة.
فى سنغافورة، تلعب العديد من المنظمات الإسلامية أدوارًا أساسية فى تشكيل الأطر الدينية والتعليمية والاجتماعية داخل المجتمع هناك، ولا تقتصر هذه المنظمات على تيسير الممارسات الدينية فقط، بل تشارك أيضًا فى الرعاية الاجتماعية والتعليم والحوار بين الأديان، مساهمة منها فى غزل نسيج سنغافورة الثقافى والدينى المتعدد، مثل مجلس الأمة الإسلامية سنغافورة (MUIS)، ومجلس العلماء والمعلمين الدينيين (PERGAS)، ومجموعة إعادة التأهيل الدينى (RRG)، وجمعية جامعة سنغافورة (الجمعية التبشيرية المسلمة سنغافورة)، وجمعية محمدية، حيث تعيد هذه المنظمات تشكيلَ الحياة الدينية لمسلمى سنغافورة مع ضمان تلبية احتياجاتهم وَفقًا للمبادئ الإسلامية؛ حيث تقدم لهم الخدمات الحياتية الأساسية بدءًا من البرامج التعليمية، والمساعدات القانونية والمالية، إلى تطوير المجتمع والحوار بين الأديان. يضمن هذا النهج الشامل تكامل المجتمع المسلم مع نسيج المجتمع الكبير فى سنغافورة.
وتعمل المنظمات الدينية فى سنغافورة بشكل وثيق متعاونة مع بعضها البعض ومع الدولة، فى إطار قويّ وتسعى للتناغم والاندماج بما يؤكد أهمية الدعم المستمر فى تسهيل التعليم الديني، والرعاية الاجتماعية، وتماسك المجتمع، وتؤسِّس هذه المنظمات منهجًا فى خدمة المجتمع بتقديم التعليم الدينى الذى يضمن الإسهام الإيجابى للمسلمين فى سنغافورة ويوفر المرونة الكافية للعيش بتناغم مع الآخرين، وفى سنغافورة، يُعد تنظيم خطب الجمعة مظهرًا جليًّا لكيفية إدارة الممارسات الإسلامية لتتماشى مع الأهداف الوطنية الكبرى للحفاظ على الوئام الدينى والتماسك الاجتماعي، ويقع عبء هذا التنظيم بشكل أساسى على عاتق المجلس الإسلامى (MUIS)، الذى ينهض بالدور المركزى فى الإشراف على محتوى هذه الخطب بهدف تقديم الرسائل الإيجابية المتوافقة مع قيم مجتمع متعدد الأعراق والأديان، ويتم إعداد هذه الخطب بعناية بحيث تؤدى هدفها من الإرشاد الدينى فى المقام الأول وتتناول القضايا المعاصرة التى تؤثر على المجتمع بشكل عام، وإعداد الأئمة المنوط بهم التصدر للخطابة بتدريبهم وتأهيلهم بحيث يكون أداؤهم فعَّالًا ومراعيًّا فى الوقت نفسه للتنوع الثقافى والدينى فى المجتمع، ويراقب MUIS تقديم هذه الخطب من خلال مراجعة المصلين والإشراف على إدارة المساجد، ولهذه المراقبة الدورية والمراجعة دور فعَّال فى تحسين المحتوى المقدم باستمرار وضمان بقائه متماشيًا مع الواقع ومُحترمًا للنسيج الاجتماعى المتنوع فى سنغافورة.
يدعم إطار الحوار بين الأديان فى سنغافورة المنظمات الحكومية وغير الحكومية، ومن ضمن ذلك المنظمة الدينية البينية (IRO)، التى تلعب دورًا محوريًّا فى تعزيز التفاهم بين الأديان المختلفة من خلال الحوارات، والفعاليات المجتمعية، والبرامج التعليمية، حيث تجمع هذه المنظمة قادةً وأعضاء من خلفيات دينية متنوعة لمناقشة معتقداتهم ومشاركة أفكارهم، وعرض ممارساتهم، ووجهات نظرهم فى بيئة تحترم التعدد الثقافى والديني.
تمثِّل العلاقات بين الأديان فى سنغافورة نموذجًا ناجحًا لكيفية تعايش المجتمعات الدينية المتنوعة بسلام وفاعلية، ويسهم المجتمع المسلم إلى جانب المجموعات الدينية الأخرى فى إحداث ديناميكية مجتمعية متناغمة لا تحترم التنوع الدينى فحسب، بل تحتفى به وتنشط فى بنائه، ويعتبر هذا الالتزام بالحوار بين الأديان مكونًا أساسيًّا فى استقرار سنغافورة المستمر كمجتمع مزدهر متعدد الأعراق والأديان.
تهدف سنغافورة إلى تنمية جيل من الشباب المسلم مثقف، مرن، ومندمج فى مجتمعه، وتتبع سنغافورة نهجًا متعدد الجوانب فى التعليم الإسلامي، حيث تجمع بين المدارس الدينية والفصول الدينية التكميلية ضمن النظام التعليمى الوطني، وتتميز المدارس الدينية فى سنغافورة بدمجها التعليم الدينى مع المناهج الدراسية العامة؛ مما يؤهل الطلاب لأداء الامتحانات الدينية وغير الدينية بكفاءة، ويضمن هذا الدمج حصول الطلاب على تعليم متوازن يحترم هُويتهم الدينية ويزوِّدهم بالكفاءات الأكاديمية الواسعة، ويتم توفير التعليم الإسلامى التكميلى للطلاب المسلمين بالمدارس العامة من خلال مجموعة منصات متنوعة، منها مدارس العطلات الأسبوعية والفصول الدينية بعد المدرسة، وتركِّز هذه البرامج على تعليم أساسيات الإسلام، من علوم القرآن، إلى تاريخ الإسلام، وهى مصممة لتكمل النظام التعليمى العلمانى وتلبى الاحتياجات المتنوعة لشباب مسلمى سنغافورة، وتُولى سنغافورة أهمية كبيرة لتفاعل الشباب ضمن المجتمع من خلال برامج الإرشاد، والتدريب على القيادة، ومشاريع خدمة المجتمع، ولقد صُممت هذه المبادرات لغرس روح المسئولية، وتنمية الحس الخدمى للمجتمع، والتدريب على القيادة بين الشباب المسلم.
تشكِّل التغيرات الطارئة على ثقافة الشباب فى عصر الرقْمنة تحديات للأنماط التقليدية للتعليم الديني، وقد استجاب المجتمع المسلم فى سنغافورة لتلك التحديات بإعادة تكييف المحتوى التعليمى والأساليب التعليمية لتكون أكثر جاذبية واتصالًا بحياة الشباب، ويشمل ذلك استخدام الوسائط الرقْمية، ومنصات التعلُّم التفاعلية، ومجموعات النقاش التى تتناول القضايا المعاصرة من منظور إسلامي.
مبادرات الاندماج المجتمعي
تعزز سنغافورة مفهوم الأماكن المشتركة حيث تكون مراكز المجتمع والمرافق الترفيهية مفتوحة للجميع، بغضِّ النظر عن الخلفية الدينية أو العِرقية، وتستضيف هذه الأماكن غالبًا أنشطة وفعاليات تشجِّع على مشاركة مجموعات متنوعة، مما يسهل التفاعلات الإيجابية والهادفة بين أعضاء المجتمع، وتعتبر الحوارات بين الأديان وبرامج تبادل الثقافات، التى تُعقَد بانتظام، مكونات رئيسية فى استراتيجية سنغافورة، ولا تهدف هذه البرامج التعليم فحسب، ولكنها تسمح للمشاركين من خلفيات دينية متنوعة بالمشاركة فى الاحتفالات معًا، حيث تمثل الطقوس المختلفة كالاحتفالات الدينية والأعمال الخيرية المشتركة، وجلسات الحوار بين الأديان ثقافة شائعة تشجعها الدولة.
التوعية التعليمية عن طريق التعرض مبكرًا لأنماط التعددية الثقافية والتسامح الدينى أمر حاسم وفى غاية الأهمية، ومن هذا المنطلق، تدمج المدارس فى سنغافورة مناهج التعليم الوطنى التى تؤكِّد الوئام العِرقى والديني؛ حيث يطَّلع الطلاب منذ الصغر على عادات ومعتقدات مجموعات عِرقية ودينية مختلفة فى سنغافورة، مما يساعد على ترسيخ الفهم الصحيح ومن ثَمَّ غرس الاحترام المتبادل بين الجميع.
كما توفر إطارات السياسات والتشريعات الحكومية الدعامة الأساسية لهذه الجهود، فقد صِيغت القوانين بعناية لضمان ألا تتعارض الممارسات الدينية مع حقوق الآخرين، وأن تراعى الشعائرُ والطقوسُ الدينية تماسكَ النسيج المجتمعيِّ المتنوع فى سنغافورة. ولعلَّ قانون صون الوئام الدينى مثال بارز على ذلك، إذ يعمل على التنبؤ بالتوترات الدينية ويهدف إلى تعزيز الحوار البنَّاء.
تستغل سنغافورة الإعلام والحملات العامة من أجل تعزيز التفاهم والاحترام المتبادل؛ حيث تدور الحملات غالبًا حول مواضيع الوحدة والقيم المشتركة، ولها دور مهم خلال المهرجانات الوطنية والأعياد الدينية. وتعتبر هذه الحملات استراتيجية هامة فى تذكير المواطنين بأهمية التماسك المجتمعى وما يحققه من مصالح مشتركة.
تُجرى الحكومة والوكالات المستقلة أبحاثًا منتظمة لرصد الاتجاهات الدينية والاجتماعية؛ مما يساعد صانعى السياسات على تكييف الاستراتيجيات مع الاحتياجات الناشئة وتحديد نقاط التوتر المحتملة، ويمتد استخدام وسائل التواصل الاجتماعى والمنتديات عبر الإنترنت لإجراء الحوارات البينية والحملات التثقيفية؛ مما يسمح بزيادة مساحة المشاركة، ويعزز الفهم والتقدير المتبادل بين المجتمعات المختلفة، ويساعد على تحسين التدابير القانونية الاحترازية واستراتيجيات شرطة المجتمع لمكافحة التطرف الدينى ومعالجته.