منذ أن نجحت إسرائيل فى تحويل كلمة «السامية» إلى عصا غليظة تشهرها فى وجه كل ناقد، ونحن نرى العالم يرتجف أمام هذا الاتهام الجاهز: معادٍ للسامية! وكأن السامية إرث حصرى لليهود وحدهم، وكأن العرب الذين يمتد نسبهم ولغتهم وتاريخهم إلى عمق الحضارات القديمة لا علاقة لهم بالجذور السامية. إنها واحدة من أخطر عمليات السطو اللغوى والسياسى فى العصر الحديث: سرقة مصطلح، ثم تحويله إلى سلاح يكمم الأفواه ويمنع أى مساءلة لإسرائيل عن جرائمها وعدوانها.
المفارقة أن العرب أصل الشعوب السامية، وأن اللغات السامية وعلى رأسها العربية هى عمود هذا البناء الحضاري. فالمصطلح نفسه لم يظهر فى التوراة ولا فى القرآن، بل صاغه مستشرقون أوروبيون فى القرن التاسع عشر لوصف مجموعة من اللغات والشعوب: العربية، العبرية، الآرامية، الأكادية، الفينيقية. ثم جاء اليهود ليحتكروا الكلمة ويجعلوها علامة تجارية باسمهم. هكذا تحوّل توصيف لغوى علمى إلى هوية سياسية حصرية، وإلى أداة ابتزاز للعالم.
التاريخ يكشف بوضوح أن العرب واليهود إخوة فى الجذر السامي. العرب أبناء إسماعيل بن إبراهيم، واليهود أبناء إسحاق بن إبراهيم. وإذا كانت العربية والعبرية أختين من رحم واحد، وإذا كانت النقوش الفينيقية والآرامية تشهد على وحدة الأصل، فمن العبث أن يحتكر اليهود وحدهم «السامية». لكن العبث صار مؤامرة حين استُخدم هذا الاحتكار لتجريم أى نقد لإسرائيل.
لقد بنت إسرائيل سرديتها العالمية على مأساة الهولوكوست، وهذا حق إنسانى فى الذاكرة، لكن من غير المقبول أن يتحول الحزن على الضحايا إلى ترسانة قانونية تحمى دولة استعمارية من النقد. فى أوروبا اليوم يمكنك أن تُحاكم إذا أنكرت الهولوكوست، لكن لا أحد يحاكم إسرائيل على قتلها للأطفال فى غزة أو على سياساتها العنصرية ضد الفلسطينيين. أى مفارقة أكبر من هذه؟ الضحية صارت جلاداً، والجلاد ارتدى قناع الضحية إلى الأبد.
الأدهى أن العرب، وهم ساميون أصلاء، صاروا متهمين بأنهم «معادون للسامية» لمجرد دفاعهم عن أرضهم وحقوقهم. العربى الذى يتحدث لغة سامية ويعيش على أرض سامية، يصبح متهماً بأنه يكره السامية! إنها مهزلة لم تكن لتنجح لولا صمت العرب. لم نرَ مؤسسات عربية كبرى تُصدر دراسات بلغات العالم لتوضيح أن العرب ساميون، ولم نرَ مؤتمراً أكاديمياً أو إعلامياً يفضح هذا الابتزاز. تركنا الساحة فارغة، فملأتها إسرائيل بخطابها المضلل.
المسئولية اليوم ليست مسئولية المؤرخين وحدهم، بل مسئولية الإعلاميين والمثقفين وصنّاع القرار. يجب أن نعيد صياغة المفهوم: من يقتل العرب ويشردهم ويهدم بيوتهم هو الذى يعادى السامية. من يقيم نظاماً فصلاً عنصرياً ضد الفلسطينيين هو العدو الأول للسامية. أما العرب، فهم ورثة السامية وعمادها الحضاري. وبدل أن ندافع بخجل، علينا أن نهاجم بثقة: إسرائيل سرقت المصطلح، ومن حقنا أن نعيد هويتنا إليه.
القضية ليست جدلاً لغوياً، بل معركة على وعى العالم. إسرائيل أدركت أن الكلمة أخطر من الرصاصة، فاحتكرت المصطلحات وحوّلتها إلى جدران تحميها من النقد. أما العرب، فاكتفوا بخطابات داخلية، وتركوا العالم يبتلع الدعاية الإسرائيلية بلا مقاومة. آن الأوان أن نكسر هذا الاحتكار، وأن نصنع خطاباً مضاداً يصل إلى الجامعات والبرلمانات والإعلام الدولي. نملك الدليل التاريخى والنص الدينى والشاهد اللغوي، لكننا نفتقد الإرادة.
اليوم نقولها واضحة: لا تبتزونا.. نحن ساميّون أيضاً. ومن يقتل العرب ويستبيح حقوقهم هو العدو الحقيقى للسامية.









