عندما أسرها من أسرها، لم تكن تدرك أنها فى طريقها إلى النجاة بنفسها من الجاهلية إلى النور.. لم تكن تعلم أنها تستعد لجنة عرضها السماوات والأرض، لــم تكن تعــرف أن حرمانها مــن ذويها واقامتها بــأرض لا أنيس فيهــا تعرفه، ولا ونيس يخفف مــن آلام غربتها بداية وهداية.. لم تكن تعرف أن ســبيها هذا هــو طريقها لأن تكون حاضنة لســيد البشــر وراعية لأعظم الخلــق وزوجًا وأمًا لشهيدين وكذلك أمًا لقائد عسكرى تحرسه الملائكة، وتحارب دونه وتباركه الســماء.. لم تكن تدرى أن أذنيها ستسمع كلمة يا أمى من المختار المعصوم الذى لا ينطق عن الهوى.
بينما كان جيش أبرهة الحبشى يترنح بين مستسلم لقضاء الله فيه بأرض مكــة الحرام، يكابد سكرات الموت وآلام الاحتضار، كان هناك من سقط فى الأسر والسبى، ومن بين هذه السبايا «بركة» التى وصلت إلى عبدالله بن عبدالمطلب وورثها نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
لــم تترك بركة بيت عبدالله بن عبدالمطلب فلازمت زوجته آمنة بعد موته فى يثرب لدى أخوال أبيه وعاشت معها تأتمر بأمرها وتسهر على راحتها وشهدت مولـد النبى صلوات الله وسلامه عليه وما كان من بركات ومعجزات أثناء وقبل وبعد مولده وعاشت مع أمه لحظات انتظارها له فى زياراته لها بين الحين والآخر فترة إرضاعه فى بنى ســعد فلما عاد من بنى سـعد ليقيم مع أمه كانت بركة حاضنته وراعيته، بل كانت معه ومع أمه فى زيارتهما لقبر والده بالمدينة، ولما توفيت أمه فى طريق العودة بمنطقة تسمى الأبواء تولت مسئوليته كاملة حتى عادت به إلى مكة ليتولى رعايته جده عبدالمطلب، يعوضه عطف أبيه وتعوضه بركة حنان أمه.
ظلت بركة ترعى ســيد الأنام وتسهر على راحته حتى تزوج السيدة خديجة فكانت هديته لمربيته أن أعتقها فتزوجها عبيد بن يزيد الخزرجى وســافر بها إلى المدينة فولدت له أيمن الذى اشتهرت بكنيته «أم أيمن» فلما توفى زوجها لــم تفكر فى البقاء بالمدينة أو العودة إلــى بلدها وإنما عادت إلى مكة حيث يوجد فيها رســول الله صلى الله عليه وســلم الذى صار لها بمثابة الابن ولم يتوقف عن زيارتها ورعايتها وكانت خامس من أســلم مــن الناس وتزوجها زيد بن حارثة حب رســول الله وربيبه عندما سمع رسول الله صلى الله عليه وســلم يقول: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن» فأنجبت له أسامة بن زيد قائد أكبر الجيوش بتكليف من رســول الله صلي الله عليه وســلم.
شهدت أم أيمن أيام المسلمين وهاجرت مع من هاجر إلى الحبشة ثم المدينة وشاركت فى يوم «أُحد» فكانت تداوى الجرحى وتسقى العطشى ولما رأت جيش المســلمين مهزومًا حثت التراب فى وجوه المهزومين وهى تقول لبعضهم هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك أى «خذ آلة الغزل التى هى من أدوات النســاء واعطنى الســيف الذى هو من أدوات الرجال» وأسرعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطمئن عليه.
فى يوم «خيبر» كانت بين عشرين سيدة شــهدن هذا اليوم وكذلك يوم مؤتة الذى تلقت فيه خبر استشهاد زوجها زيد بن حارثة أحد المهاجرين والمؤمنين الأوائل ورواة الحديث فتلقت خبر استشهاده مؤمنة محتسبة وفى يوم حنين الذى شهدته أيضا تلقت خبر استشهاد ابنها أيمن فتلقته صابرة محتسبة.. فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هناك تبكى ابنها الذى ربته ومنقذها من العبودية للبشر ومن الشــرك بالله ومبشرها بالجنة ومناديها بـ «يا أم» وزائرها المداوم على زيارتها دون أن تشغله أعباء الرســالة عنها.
كان رســول الله صلى الله عليه وســلم إذا تحدث عنها قال «إنها بقية أهل بيتى» وكان يقول «أمى بعد أمى»، وكان يســعد بالمزاح معها.









