الثوابت المصرية.. ورسائل الخطاب متعدد المستويات
أحمد ناجى قمحة
فى علم العلاقات الدولية، حيث تتقاطع السلطة مع الرموز واللغة، يُعد الخطاب السياسى أكثر من مجرد كلمات؛ إنه بنية تفاعلية تشكل الواقع الدبلوماسى وتعكس الثوابت الاستراتيجية للدول. يعتمد تحليل الخطاب السياسي، كإطار نظري، على مقاربات متعددة تربط بين اللغة، السلطة، والسياق الاجتماعي– السياسي، بما يجعله أداة حاسمة لفهم كيفية صياغة الرسائل متعددة المستويات فى السياسة الخارجية. فى سياق القمة العربية–الإسلامية بالدوحة، يبرز خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى كنموذج حى لتطبيق هذه الأطر، حيث يجسد توازنًا بين الثوابت المصرية التاريخية والتكيف مع التحديات الراهنة، مثل أزمة غزة بعد 7 أكتوبر 2023.
من أبرز الإطارات النظرية المعتمدة فى تحليل الخطاب السياسى هو التحليل النقدى للخطاب «Critical Discourse Analysis – CDA»، الذى طوره نورمان فيركلوج «Norman Fairclough» فى تسعينيات القرن الماضي، ويرى فى الخطاب عملية إنتاج وتوزيع السلطة من خلال النصوص الاجتماعية. يقسم فيركلوج التحليل إلى ثلاثة مستويات مترابطة: الوصف «تحليل النص اللغوي»، التفسير «العلاقة بين النص والسياق التفاعلي»، والتفسير النقدى «العلاقة بالسياق الاجتماعى الأوسع». فى خطاب الرئيس السيسي، يتجلى هذا الإطار فى الرسائل المتعددة المستويات، حيث يُستخدم اللغة لتأكيد الثوابت المصرية «مثل دعم الدولة الفلسطينية وحل الدولتين» كعناصر وصفية، بينما يُفسر التوجه إلى الشعب الإسرائيلى كدعوة تفاعلية للتعقل، وينقد العجز الدولى كجزء من سياق اجتماعى يعكس ازدواجية المعايير فى النظام الدولي.
تتكامل هذه المقاربة مع المنهج ما بعد البنيوى «Post-structuralism» فى تحليل الخطاب، كما يبرزه ميشيل فوكو فى أعماله حول الخطاب والسلطة، حيث يُعتبر الخطاب ليس مجرد تعبير عن الواقع، بل أداة لإنتاجه من خلال الصراع حول المعاني. فى هذا الإطار، يصبح خطاب السيسى تأكيدًا حول معنى «الأمن» و»السلام»، حيث يُعاد صياغة السردية الإسرائيلية الرسمية «حرب وجود» لتصبح دعوة أخلاقية للشعب الإسرائيلي، مما يعكس كيفية استخدام الخطاب لتحويل الخصومة إلى حوار محتمل. كما يرتبط هذا بالاقتصاد السياسى الثقافي، الذى يرى فى الخطاب آلية لتوزيع الموارد الرمزية والمادية، مثل الدعوة للتنسيق مع قطر أو الضغط على الولايات المتحدة، لتعزيز الثوابت المصرية دون التنازل عن المرونة التكتيكية.
بالإضافة إلى ذلك، يُثرى المنهج البرجماتى «Pragmatic Approach»، كما فى أعمال ستيفن ليفنسن «Stephen Levinson» وديبوراهتينين»Deborah Tannen»، فهم الخطاب كعملية تفاعلية تعتمد على السياقات الاجتماعية والثقافية. هنا، تُحلل الرسائل المتعددة فى خطاب السيسى كـ«أفعال كلامية» «speech acts» وليست أقوالا فقط، حيث تكون الإشادة بدور قطر «فعلًا تعاونيًا» يبنى التحالفات، بينما النقد للأمم المتحدة «فعلًا توجيهيًا» يهدف إلى إصلاح النظام الدولي. هذا المنهج يبرز كيف يحقق الخطاب توازنًا بين الثوابت «الدفاع عن فلسطين كقيمة أخلاقية» والتكيف «المرونة فى الوساطة»، مما يعكس السياسة الخارجية المصرية كمزيج من الواقعية «الحفاظ على الأمن القومي» والبنائية «إعادة بناء الهويات العربية».
لذا، يُعد خطاب السيسى فى الدوحة تطبيقًا عمليًا لهذه الأطر النظرية، حيث يُحول الخطاب من أداة بلاغية إلى استراتيجية دبلوماسية متعددة الأبعاد، تربط بين الداخل المصرى والعالمي. من خلال هذا التحليل، نكشف ليس فقط رسائل الخطاب، بل كيفية تعزيزه لدور مصر كقائد إقليمى فى المعاناةالفلسطينية المستمرة. فالأحداث التى تلت 7 أكتوبر 2023 وضعت الإقليم والعالم أمام اختبار غير مسبوق، إذ شهدت فلسطين تصعيدًا عسكريًا واسعًا، ترافق مع معاناة إنسانية كارثية فى قطاع غزة، وتوترات سياسية شديدة التعقيد ألقت بظلالها على العلاقات العربية-الإسرائيلية، والعربية-الدولية، فى ظل العجز الدولى وازدواجية المعايير المتبعة إزاء القضية الفلسطينية.
فى هذا السياق، يُمكننا القول بأن الرئيس السيسى قد قدم خطابًا يتجاوز حدود المجاملات الدبلوماسية أو البيانات التقليدية، ليحمل رسائل مركبة وموحّدة فى آن واحد، موجهة إلى سبعة أطراف رئيسية: الشعب المصري، الشعب الإسرائيلي، دولة قطر، الحكام العرب، الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، ودول العالم المحبة للسلام. هذه الرسائل لم تكن منعزلة، بل جاءت منسجمة مع ثوابت السياسة الخارجية المصرية تجاه القضية الفلسطينية، ومع تطورات ما بعد 7 أكتوبر، حيث صاغت مصر مقاربة جديدةلسردية مصرية وطنية تجمع بين الحسم السياسى والإنساني، والتمسك بالمبادئ مع المرونة فى التكتيك.
لعل هذه القمة، التى استضافتها دولة قطر الشقيقة، لم تكن مجرد لقاء دبلوماسى روتيني، بل كانت استجابة فورية لعدوان إسرائيلى آثم على الأجواء والأراضى القطرية، يُعد انتهاكًا صارخًا للسيادة الوطنية وتهديدًا مباشرًا للأمن القومى العربى والإسلامي. وهو ما ينسجم مع السياق الأوسع للسردية الوطنية المصرية للأحداث التى تلت 7 أكتوبر 2023، حيث أشعلت عملية «طوفان الأقصي» شرارة حرب غزة الدامية، التى أودت بحياة عشرات الآلاف، وأحدثت معاناة إنسانية غير مسبوقة فى قطاع غزة.
فى هذا الظرف الاستثنائى والمعقد، حيث يتداخل التهديد العسكرى بالضغوط السياسية، والمعاناة الإنسانية بالتحديات الاستراتيجية، قدم الرئيس السيسى خطابًا يتجاوز حدود المجاملات الدبلوماسية أو البيانات التقليدية. ولكى نفهم عمق هذا الخطاب، يجب أن نعود قليلاً إلى السياق التاريخي. فمنذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، التى أنهت حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، اعتمدت القاهرة على سياسة خارجية ترتكز على ثلاثة أعمدة رئيسية: السلام العادل، الأمن القومي، والدور القيادى فى الشئون العربية.
ونتيجة لتداعيات الأحداث بعد 7 أكتوبر، شهدت مصر تصعيدًا فى دورها الوساطي، حيث ساهمت مع قطر والولايات المتحدة فى مفاوضات وقف إطلاق النار، وفتح ممرات الإغاثة، وإطلاق سراح الأسري. ومع ذلك، أدى العدوان الإسرائيلى الأخير على قطر إلى إعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية، مما جعل قمة الدوحة لحظة حاسمة لإعادة تأكيد الوحدة العربية-الإسلامية.
فى هذا الإطار، يبرز الخطاب كوثيقة سياسية حية، تعكس القدرة المصرية على التوفيق بين الضرورات الداخلية والإقليمية. إنه ليس مجرد رد فعل على الأحداث، بل استراتيجية مدروسة لإعادة رسم الخطوط، وتعزيز الموقف المصرى كحجر زاوية فى أى حل مستقبلي. ومن خلال تحليلنا، سنستعرض كل رسالة على حدة، مع الاستناد إلى اقتباسات مباشرة من الخطاب، ومقارنتها بالسياق التاريخي، لنكشف كيف يجسد هذا الخطاب التوازن الدقيق بين الثوابت والتكيف مع الواقع المتغير.
أولًا: الرسالة إلى الشعب المصري..
تثبيت الثقة وتعزيز الشرعية الوطنية
كان واضحًا منذ السطور الأولى للخطاب أن الرئيس السيسى لم يغفل مخاطبة الداخل المصري، إذ استحضر الدور التاريخى لمصر كحاضنة للقضية الفلسطينية وكشريك أساسى فى كل معارك العرب. قال الرئيس صراحة: «مصر، بتاريخها الطويل فى الدفاع عن الحقوق العربية، لن تتخلى عن إخوانها فى فلسطين، لكنها ستحافظ على أمنها القومى كخط أحمر». هذه الرسالة جاءت لتأكيد أمرين أساسيين:
1 – رفض الانجرار إلى صراعات عسكرية مباشرة يحاول البعض فرضها عمدا على مصر ، فى ظل الضغوط الشعبية المتزايدة داخل مصر، خاصة بعد مشاهد الدمار فى غزة،حيث أكد الرئيس أن مصر لن تنجر إلى صدام عسكرى مباشر مع إسرائيل، الذى قد يهدد حدودها الشرقية ويفتح جبهة جديدة فى سيناء. هذا الموقف يعكس دروس التاريخ، حيث خسرت مصر حروبًا سابقة باهظة الثمن، وانتقلت إلى الدبلوماسية كأداة أكثر فعالية فمصر لا تسمح بأن يفرض عليها مسار، ولا تسعى إلى الحرب لكن إذا كانت الخيار الأخير فهى قادرة على حماية أمنها وارضها ومع ذلك، أضاف الرئيس: «التزامنا الأخلاقى تجاه فلسطين مقدس، وسنستمر فى دعم الإغاثة والوساطة دون تردد».
2 – التحرك وفق ثوابت استراتيجية لا انفعالات عاطفية: أمام حملات إعلامية داخلية وخارجية تحاول التشكيك فى موقف مصر، مثل تلك التى تتهمها بالتواطؤ مع إسرائيل، شدد السيسى على أن الدولة تتحرك بناءً على حسابات استراتيجية، لا ردود فعل عاطفية. هذا يذكرنا بخطابات سابقة، مثل كلمته فى قمة الرياض 2023، حيث حذر من «الانجراف نحو الفوضي». تحليل هذه النقطة يكشف أن الرئيس أراد طمأنة الداخل، خاصة الشباب والقوى الشعبية التى تتابع الأحداث عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
فى استطلاع رأى أجراه مركز «بى بى سي» فى يناير 2024، أعرب 68 ٪ من المصريين عن قلقهم من التصعيد الحدودي، مما يجعل هذه الرسالة ضرورية لتعزيز الثقة فى القيادة. الخطاب هنا أكد ان النظام السياسى مدافع عن الأمن القومى وفى الوقت نفسه نصير للقضية المركزية للعرب.
لنوسع النظر، يمكن رؤية هذه الرسالة كجزء من استراتيجية أوسع لإدارة الرأى العام، فمنذ تولى الرئيس السيسى السلطة عام 2014، اعتمد فى خطاباته على الربط بين تحقيق الاستقرار الداخلى وبين قوة الموقف فى القضايا الخارجية، كما فى حملة «حياة كريمة» التى ربطت التنمية بالأمن. فى قمة الدوحة، أضاف السيسى لمسة إنسانية بذكر «معاناة الشعب الفلسطينى الشقيق»، مما يعزز الشعور بالانتماء العروبى دون إثارة الغضب غير المنضبط. هذا التوازن يمنع الاضطرابات الداخلية، ويحافظ على الثقة الشعبية والتماسك الداخلى ، خاصة فى ظل التحديات الاقتصادية المستمرة الناجمة عن الأزمات الإقليمية والدولية.
هكذا، يصبح الخطاب أداة لتعزيز التماسك الاجتماعي، وتثبيت مصر كقوة مسئولة فى الإقليم.
ثانيًا: الرسالة إلى الشعب الإسرائيلي..
بين التحذير والدعوة للتعقل
فى سابقة لافتة وجريئة، خاطب الرئيس السيسى المجتمع الإسرائيلى مباشرة، لا حكومته التى وصفها للمرة الأولى بالعدو، موجهًا رسالة مفادها أن «الأمن الحقيقى لا يُبنى على الدماء والدمار، وأن استمرار السياسات الحالية يهدد استقرار إسرائيل نفسها». قال الرئيس: «نحن نتحدث إلى الشعب الإسرائيلى كشعب يريد السلام، لا إلى حكومة تتاجر بالأرواح». هذا الخطاب ينطوى على ثلاث دلالات عميقة:
1 – التفريق بين الشعوب والحكومات فى محاولة لكسر السردية الرسمية الإسرائيلية، التى تصوّر الصراع على أنه حرب وجودية ضد «الإرهاب»، ميّز السيسى بين الشعب الإسرائيلى والقيادة المتطرفة بقيادة نتنياهو. هذا التفريق ليس جديدًا فى الدبلوماسية المصرية، لكنه جاء هنا بقوة أكبر، مستلهمًا من خطاب الرئيس الراحل أنور السادات أمام الكنيست عام 1977، الذى دعا حينها الإسرائيليين إلى «السلام مع الشعوب لا مع الحكومات».
2 – وضع الشعب الإسرائيلى أمام مسؤولية أخلاقية وسياسية: دعا السيسى الإسرائيليين إلى الضغط على حكومتهم بهدف وقف العمليات العسكرية، مشيرًا إلى أن «الصمت على الجرائم يجعلكم شركاء فيها». هذا يعكس فهمًا للديناميكيات الداخلية الإسرائيلية، حيث أظهرت استطلاعات «هآرتس» فى أغسطس 2025 انخفاض دعم نتنياهو إلى 32 ٪ بسبب الحرب.
3 – ثبات الموقف المصرى على السلام العادل: أكد الرئيس أن «السلام الشامل والعادل هو الضمانة الوحيدة للاستقرار»، مرجعًا ذلك إلى حل الدولتين كإطار دولى معترف به.
من الناحية التحليلية، يمكن القول إن الرئيس السيسى استثمر اللحظة لتوسيع دوائر الحوار، وتوجيه رسالة ضمنية للعالم بأن مصر لا ترى الإسرائيليين كشعب خصوم مطلقين، وإنما كطرف يمكن مخاطبته عقلانيًا. لعل ذلك ينسجم مع اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية، ومع تاريخ مصر الدبلوماسى منذ كامب ديفيد، حيث أدخلت مصر «السلام البارد» كأساس للتعاون الأمني.
كما نلاحظ أن هذه الرسالة تأتى فى وقت يشهد فيه المجتمع الإسرائيلى انقسامات داخلية، مع احتجاجات «أخوات الأسري» و«النساء المتشحات بالسواد» ضد الحكومة. الرئيس السيسي، بتجربته العسكرية، يفهم أن الشعوب تتغير قبل الحكومات، ويستخدم الخطاب لزرع بذور الشك فى السردية الرسمية لحكومة اليمين المتطرف. كما أنها رسالة مبطنة للولايات المتحدة، التى تدعم إسرائيل، لتشجيع الضغط الداخلي.
وجود القمة فى الدوحة منح خطاب السيسى دلالة خاصة، إذ مرت العلاقات بتوترات بعد عام 2013 لكنها شهدت تحسنًا تدريجيًا منذ 2021 فى ظل سياسة الصبر الاستراتيجى التى تنتهجها الدولة المصرية مع إعمال المبادئ الأخلاقية للعلاقات الدولية، وهو ما انعكس فى التنسيق عالى المستوى الذى حدث بين البلدين فى إدارة ملف الحرب الأخيرة على غزة. من هنا، فإن توجيه الرئيس السيسى رسالة مباشرة لقطر لم يكن مجاملة، بل إشارة إلى أن القاهرة ترى فى الدوحة لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاوزه. قال الرئيس: «ننقل تضامن مصر الكامل مع قطر فى مواجهة العدوان الإسرائيلى على أراضيها، ونؤكد أن التنسيق بيننا هو مفتاح النجاح فى الوساطة».
الرسالة حملت أبعادًا مزدوجة:
1- إيجابية.. إشادة بدور الوساطة القطرية:حيث أشاد الرئيس السيسى بدور قطر فى ملفات الوساطة والأسرى والإغاثة، مشيرًا إلى أن «جهود الدوحة المشتركة مع مصر أنقذت آلاف الأرواح». لعله هنا يقر بنجاحات مثل صفقة نوفمبر 2023، التى أطلقت 105 أسري.
2 – استراتيجية.. دعوة للعمل المشترك ضمن مظلة عربية: حيث دعا إلى «التنسيق العربى الجماعى بعيدًا عن الانفراد»، محذرًا من توظيف الأزمة لمكاسب سياسية. وهو هنا يعكس رفض مصر لمحاولة أى طرف إقليمى الانفراد بالملف الفلسطيني، كما حدث فى السنوات السابقة.
بهذا، فتح الرئيس السيسى بابًا لتوازن دقيق، الاعتراف بالدور القطرى مع التأكيد على التنسيق، وهو ما يعكس ثوابت مصر فى بناء الوحدة العربية. تحليليًا، يمكن رؤية هذا كانعكاس لتحول المنطقة نحو «الدبلوماسية المتعددة الأطراف»، حيث أصبحت قطر شريكًا فى «الوساطة الثلاثية» مع مصروالولايات المتحدة. هنا، نلاحظ أن هذه الرسالة تأتى بعد زيارات متبادلة، مثل زيارة أمير قطر للقاهرة فى 2024، التى أدت إلى اتفاقيات اقتصادية بقيمة 10 مليارات دولار. يستخدم الرئيس السيسى هذا الخطاب لتعزيز هذا التحالف، محولاً التنافس السابق إلى شراكة استراتيجية ضد التهديد الإسرائيلى المشترك. كما أنها رسالة للخليج، لتشجيع الاستثمار فى الوساطة العربية الموحدة، بعيدًا عن التدخلات الخارجية. اليوم، مع العدوان على الدوحة، يصبح التنسيق ضرورة أمنية، ويرسخ دور مصر كوسيط رئيسى مشاركة مع قطر.
رابعًا: الرسالة إلى ال إلاشقاء العرب..
اختبار الوحدة والالتزام
من أبرز محاور الخطاب دعوة السيسى الصريحة الى الأشقاء العرب إلى «ترجمة الأقوال إلى أفعال»، قائلًا: «البيانات التضامنية لا تكفي؛ نحتاج إلى تحرك سياسى واقتصادى وإعلامى متكامل للضغط من أجل وقف الحرب وفتح الممرات». هذه الرسالة تنطوى على نقد ضمنى لحالة التشرذم العربي، لكنها تقدم خريطة طريق للوحدة.
تحليل هذه النقطة يوضح أن مصر أرادت:
1 – تثبيت مكانتها كقائد طبيعي: يعيد الرئيس السيسى تعريف المكانة المصرية كمحور للنظام العربي، مذكرًا بالدور المصرى التاريخي، وما قدمته مصر وما زالت للقضية الفلسطينية.
2 – تحميل الجميع المسؤولية المشتركة:»لا يُترَك العبء على القاهرة وحدها»، محفزًا كل الدول العربية بأن تساهم وتدعم وفق ما تمتلكه من قدرات حفاظا على الأمن القوميالعربي
3 – إعادة تعريف التضامن: كالتزام عملي، مثل اقتراح صندوق عربى لإعادة إعمار غزة بـ50 مليار دولار.
هذه الدعوة للتحرك العملى تأتى بعد فشل قمم سابقة، حيث لم تُترجم الوعود إلى أفعال.
السيسى يستلهم من «ميثاق جامعة الدول العربية» ليبنى تحالفًا عمليًا، مع التركيز على الضغط على الأمم المتحدة. هذا يعزز دور مصر كـ»قائد للتحركات العربية»، ويمنع تكرار الانقسامات مثل تلك التى حدثت فى بعض الملفات الخلافية.
خامسًا: الرسالة إلى الأمم المتحدة.. كشف العجز الدولي
فى خطابه، وجّه الرئيس السيسى نقدًا مباشرًا لآليات الأمم المتحدة، معتبرًا أن عجز مجلس الأمن عن إصدار قرار ملزم لوقف إطلاق النار يكشف أزمة الشرعية الدولية. لكنه لم يكتف بالنقد، بل دعا إلى إصلاح هذه المنظومة لتكون أكثر عدلًا وفاعلية، خاصة مع إزدواجية المعايير التى يتم التعامل بها مع القضية الفلسطينية مقارنة بالأزمات الدولية الأخري.
هذه الرسالة ليست جديدة فى السياسة المصرية، لكنها جاءت هذه المرة بصياغة أكثر حدة، تعكس حجم الإحباط من ازدواجية المعايير.
تحليلًا، يمكن القول إن الرئيس السيسى أراد أن يضع الأمم المتحدة أمام اختبار وجودي: إما أن تقوم بدورها، أو تفقد ما تبقى من مصداقيتها. وهذه رؤية تنسجم مع الموقف المصرى التقليدى منذ الخمسينيات، الداعى إلى إصلاح النظام الدولى بما يحقق التوازن بين الشمال والجنوب.
سادسًا: الرسالة إلى الولايات المتحدة.. التحول إلى شريك ضاغط
من أكثر الرسائل دقة تلك التى وجّهها السيسى إلى الولايات المتحدة. فقد حمّلها مسؤولية خاصة بحكم كونها الحليف الأول لإسرائيل، وطالبها باستخدام نفوذها لوقف العمليات العسكرية.
هذه الرسالة تنطوى على معادلة دقيقة؛ من جهة، اعتراف بالدور الأمريكى المحوري، ومن جهة أخري، كشف لحدود هذا الدور إذا ما استمر فى الانحياز المطلق لإسرائيل.
مصر، هنا تتبنى مصر مقاربة «الضغط الناعم»، فهى لا تقطع خطوط الاتصال مع واشنطن، لكنها فى الوقت ذاته تُظهر للرأى العام الدولى أن المشكلة الأساسية تكمن فى الموقف الأمريكي.
سابعًا: الرسالة إلى دول العالم المحبة للسلام.. بناء تحالف إنسانى عالمى
أحد أكثر جوانب الخطاب تميزًا هو توجيه رسالة إلى المجتمع الدولى الأوسع، بما فيه الدول الإفريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية وأوروبا التى لا تنخرط مباشرة فى الصراع. دعوة السيسى لهذه الدول للعمل معًا من أجل وقف الحرب جاءت لتوسيع قاعدة التحالفات، ونقل القضية من كونها نزاعًا عربيًا-إسرائيليًا إلى قضية إنسانية وأخلاقية عالمية.
هذا التوجه يعكس إدراك مصر أن النظام الدولى يشهد تحولات كبري، وأن بناء تحالفات جنوب-جنوب، أو مع قوى متوسطة، قد يكون أكثر جدوى من انتظار الموقف الغربى التقليدي.
«ثامنًا: ثوابت السياسة المصرية تجاه فلسطين.. من المبادئ إلى التطبيق
جميع هذه الرسائل لم تأتِ بمعزل عن الثوابت المصرية، التى يمكن تلخيصها في:
1 – دعم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
2 – رفض التهجير القسرى للفلسطينيين تحت أى ذريعة.
3 – التمسك بحل الدولتين باعتباره الإطار الوحيد المقبول.
4 – ضمان أمن مصر القومى بعدم السماح بتحويل غزة إلى ساحة للفوضى أو إلى عبء إنسانى على سيناء.
بعد 7 أكتوبر 2023، اكتسبت هذه الثوابت بعدًا جديدًا؛ فهى لم تعد شعارات عامة، بل أدوات عملية لإدارة أزمة متفجرة. والخطاب فى الدوحة كان تجسيدًا لهذه النقلة النوعية، حيث قدّم السيسى موقفًا صلبًا، يجمع بين الدفاع عن المبادئ وحماية المصالح الوطنية.
يمكن القول إن كلمة الرئيس السيسى فى القمة بالدوحة شكّلت وثيقة سياسية تعكس بوضوح موقع مصر فى المعادلة الراهنة. فهى دولة تحرص على أمنها القومي، لكنها لا تتخلى عن دورها التاريخى فى الدفاع عن فلسطين. وهى تسعى إلى بناء توافق عربى وإقليمي، لكنها فى الوقت ذاته لا تتردد فى توجيه النقد للمنظومة الدولية وللقوى الكبري.
الخطاب قدّم رسائل متوازنة؛ طمأنة الداخل، دعوة للعقلانية لدى الإسرائيليين، تنسيق مع قطر، تحفيز للعرب، نقد للأمم المتحدة، مطالبة للولايات المتحدة، واستنهاض لدول العالم. كل ذلك يرسّخ حقيقة واحدة، أن مصر، بثوابتها ومكانتها، لا تزال حجر الزاوية فى أى حل عادل ودائم وشامل للقضية الفلسطينية، وأن صوتها فى مثل هذه اللحظات التاريخية يبقى مرجعًا لا يمكن تجاهله.
فى ختــام هذه القــــراءة التحليليــــــة لكلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى فى القمة العربية-الإسلامية بالدوحة، يتجلى بوضوح تحقق الإطار النظرى المقدم فى البداية، حيث يتحول الخطاب السياسى من مجرد نص بلاغى إلى آلية حية لإنتاج السلطة والمعنى فى السياسة الخارجية المصرية. كما أوضح التحليل النقدى للخطاب «CDA» لفيركلوج، فقد نجح الخطاب فى تجاوز المستوى الوصفى «اللغة الصريحة فى تأكيد الثوابت مثل رفض التهجير وحل الدولتين» إلى التفسيرى «الرسائل التفاعلية الموجهة للشعب الإسرائيلى وقطر، التى تبنى تحالفات وتكسر روايات الخصومة»، ثم النقدى «الكشف عن ازدواجية المعايير فى الأمم المتحدة والولايات المتحدة، مما يعكس سياقًا اجتماعيًا أوسع يعانى من عدم التوازن الدولي». هذا التقسيم الثلاثى ليس نظريًا مجردًا، بل يتجسد عمليًا فى كيفية صياغة الرسائل المتعددة المستويات، حيث أصبحت اللغة أداة لتعزيز الشرعية الداخلية المصرية وتوسيع التحالفات الإقليمية، مما يؤكد أن الخطاب ليس مجرد رد فعل للعدوان على السيادة القطرية، بل إعادة بناء للواقع السياسي.
كذلك، يثبت المنهج ما بعد البنيوى لفوكو صحة افتراضه بأن الخطاب ينتج السلطة من خلال الصراع حول المعاني، إذ أعاد السيسى صياغة مفاهيم «الأمن» و«السلام» لتتحول من سردية إسرائيلية وجودية إلى دعوة أخلاقية عالمية، موجهة إلى الحكام العرب والدول المحبة للسلام. هذا الصراع الدلالى لم يكن عرضيًا؛ بل كان استراتيجيًا، يعكس الثوابت المصرية كأدوات للحفاظ على الأمن القومى «رفض تحويل سيناء إلى ساحة فوضي» مع المرونة التكتيكية فى الوساطة، مما يجسد كيف يُستخدم الخطاب لإنتاج تحالفات جنوب-جنوب، بعيدًا عن الاعتماد على القوى الكبري. وفى هذا، يتجاوز الخطاب حدود الدبلوماسية التقليدية ليصبح عاملاً فى إعادة تشكيل الهويات العربية-الإسلامية، كما فى الدعوة للوحدة العملية مع قطر، التى تحولت من تنافس إلى تنسيق.
أما المنهج البرجماتى لوتينين، فيثبت تحققه من خلال تفسير الرسائل كأفعال كلامية فعالة: الإشادة بالدور القطرى كـ«فعل تعاوني» يبنى الثقة، والنقد للعجز الدولى كـ«فعل توجيهي» يحفز الإصلاح، والطمأنة للشعب المصرى كـ»فعل تأكيدي» يعزز التماسك الاجتماعي. هذه الأفعال لم تكن منعزلة؛ بل كانت مترابطة فى سياق ثقافي-سياسى يجمع بين الواقعية «الحفاظ على السلام البارد مع إسرائيل» والبنائية «إعادة بناء الرواية الفلسطينية كقضية إنسانية عالمية»، مما يؤكد أن خطاب السيسى لم يقتصر على الرد على العدوان الإسرائيلى على قطر فى سبتمبر 2025، بل رسم خريطة طريق لدور مصر القيادى فى النظام الإقليمى الجديد.
بهذا، يُثبت الخطاب فى الدوحة أن الإطار النظرى ليس مجرد أداة تحليلية، بل مرآة للواقع الدبلوماسي، حيث حقق التوازن بين الثوابت والتكيف، بما يعيدالتأكيد على الدور المصرى كحجر زاوية فى حل القضية الفلسطينية. فى عصر التحديات المتسارعة، يبقى مثل هذا الخطاب دليلاً على أن اللغة، عندما تُدار بحكمة، تصبح سلاحًا للسلام العادل، وصوتًا يتجاوز الحدود ليُسمع فى أروقة العالم.