نستكمل مع القراء الأعزاء دلالات مفاهيم الحضارة والمدنية والمعرفة واوجه التشابك مع مفهوم الثقافة اتفاقاً واختلافاً.
نرى أن مفهوم الحضارة عند أرنولد جوزف توينبى وهو مؤرخ بريطانى «1889/1975» أهم أعماله موسوعة «دراسة التاريخ» وهو من أشهر المؤرخين فى القرن العشرين، وتحدث عن الحضارة فى موسوعته التى بذل توينبى من أجلها نحو أربعين عاماً فى دراسة التاريخ «أثنى عشر مجلدا»، قسّم فيها الحضارات البشرية إلى إحدى وعشرين حضارة تحدث قيها عن اندثار معظم الحضارات الأشهر، ولم يتبق غير حضارات تتجه غاية الفقد والمحو التدريجي، وعندما تحث عن الحضارة الغربية «أوروبا وأمريكا واستراليا»، فمازالت وفق تصوره مجهولة المصير.
ومن باب الشيء بالشيء يذكر، أحيل القاريء المهتم إلى مطالعة كتابه «الوحدة العربية» الذى يعد مبلغ اهتمام توينبى بالتاريخ العربى واللغة العربية والإسلام، حين توقع تمام الوحدة العربية فى منتصف سبعينيات القرن الماضي، بحيث نظّر لتحقيق الوحدة العربية، فقد كتب عن استنتاجه المستقبلى فى أمر الوحدة فى حدود عام 1974، كما فعل الألمان والإيطاليون.. وأيّد توينبى «القضية الفلسطينية» ودحض الافتراءات الصهيونية، فكتب: أنكم تطالبون بحق اليهود فى العودة إلى فلسطين، رغم أنه لم يكن فى فلسطين عام 1935 سكان يهود.. ومعاملة اليهود للعرب فى فلسطين مشابهة لمعاملة النازية لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.. وإن جرائم النازية ضد اليهود أقل انحطاطاً من جرائم اليهود ضد الأبرياء العرب.
نظرية ابن خلدون: عبدالرحمن بن مُحمَّد بن خلدون الحضرمى الميلاد بتونس 1332، الاقامة والوفاة 1406 بالقاهرة يرى أنّ جميع الحضارات التى نشأت كانت فى بدايتها تعيش حياة بداوة، إلّا أنّها أخذت بالتوسع شيئاً فشيئاً حتى صارت عامرة ومزدهرة، ومع مرور الوقت يزول هذا الملك والعمران وينتقل إلى أمم أخري.
أما مفهوم «المدنية»، فيتضح بجلاء عند تعريف الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط «1724/1804»، حيث يؤكد أن الأخلاق ضرورة حتمية للحضارة، وهى حالة باطنة، فى مقابل المدنية التى هى أكثر تعلُّقًا بالمظاهر الخارجية للسلوك.
فى حين أن روبرت مريسون مكيفر «1882/1970» عالم الاجتماع الاسكتلندي، ومن مؤلفاته التى يحدد فيها المفاهيم النظرية ويوضحها «المجتمع.. دراسة اجتماعية» صدر 1917، و»المجتمع.. بناؤه وتغيرات» صدر 1931، ويرى «المدنية» تتعلَّق بالوسائل والآليات والأدوات، أما «الحضارة» فتتعلق بالغايات.. فالمدنية تشتمل على مظاهر التقدُّم الصناعى والاقتصادي، لذا يرى «المدنية» وسيلة لا تُقْصَد لذاتها، وإنما تُسْتَهْدَف من أجل غرضٍ آخَر مغاير لها وهو رقاهية الإنسان، أما «الحضارة» فترتبط بالقيم الإنسانية الكامنة، التى هى غايات مقصودة لذاتها، ويستحيل تصورها وسيلة لتحقيق غرض آخر.
أما «المعرفة» التى شغلت تفكير المفكرين والفلاسقة إلى حد بلغ ذروته عند تقسيمها إلى معرفة مطلقة وكلاسيكية وبديهية، فما كان الفكر الفلسفى فى غالبيته سوى أبحاثاً وكتباً تؤرخ لنظريات المعرفة عند الفلاسـفة المختلفين، وهو ما أكده زكـى نجيب محفـوظ «1905/1993»، وصفه ياقوت الحموى فى كتابه «معجم الأدباء» بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، لأنه كان أديباً موسوعياً يحاول مزج الفلسفة بالأدب ويشرح نجيب: نظرية المعرفة عند الفيلسوف هى رأيه فى تفسير المعرفة أياً ما كانـت الحقيقة المعروفة.
يقول البعض إن العصر الذهبى للمعرفة كان مع تعريفات ديكارت «1595/1650» فى حين ينصف آخرون جون لوك «1632/1704» بأنه هو الواضع الحقيقى لنظرية المعرفة، وتعج الأدبيات بالاعتراف بميلاد نظرية المعرفة مع مؤلفات كانط وبالتحديد «نقد العقل» وما بين المذاهب الثلاث لنظرية المعرفة وهى العقلى والنقدى والتجريبى كانت الفلسفة الحديثة تتمحور.
من هنا يتضح اتفاق– بشكل ما– نتاج الجهد الإبداعى للعلماء والمفكرين والفلاسفة حول مفاهيم «الحضارة» و»المدنية» و»المعرفة»، وأنهم يشكلون خطوط تماس وجوهر متقارب فى المضمون إلى حد كبيرمع مفهوم «الثقافة»، إلا أنها– تلك المفردات– تعد كل واحدة منها جزءا من مفهوم «الثقافة»، فلم يقدم العقل البشرى مفهوماً ضاماً وحاوياً عن «الحضارة» أو «المدنية» أو «المعرفة» لمفهوم «الثقافة» فكل– أو غالبية– ما أنتجه العقل نحو المفاهيم تلك ما هى إلا بعضاً من مفهوم «الثقافة» وطبقا لنظرية «الكل والجزء» التى يحدثنا عنها علم المنطق فإن الحضارة والمدنية والمعرفة هى أجزاء من كليات «الثقافة»، وبهذا التسليم المنطقى والعقلى يكون مفهوم «الثقافة» أعمق– إبداعياً– وأكثر اتساعاً وشمولاً فكرياً من هذه المفردات الجزئية والتابعة فى فلك «الثقافة» وهى «الحضارة» و»المدنية» و»المعرفة».