لم يكن العرض العسكرى الصينى الأخير مجرد استعراض للقوة التقليدية، بل كان إعلانًا صريحًا عن أن بكين باتت لاعبًا رئيسيًا فى صياغة النظام العالمي. دبابات ضخمة، صواريخ بعيدة المدي، وتقنيات دفاعية متقدمة، كلها رسائل مشفرة موجهة إلى واشنطن والعواصم الأوروبية: «نحن هنا، ولن نكون تابعين لأحد». هذا المشهد أربك الغرب وأيقظ ذاكرة الحرب الباردة، لكن فى نسخة أشد تعقيدًا وأكثر دهاءً.
الولايات المتحدة لم تنتظر طويلًا، فجاء ردها هذه المرة ليس بصواريخ أو حاملات طائرات، وإنما باستدعاء عقول ونجوم التكنولوجيا إلى البيت الأبيض. صورة دونالد ترامب محاطًا بقيادات «وادى السيليكون» كانت رسالة مقابلة: «أنتم تستعرضون بالمدافع، ونحن نستعرض بالعقول». الذكاء الاصطناعي، الفضاء السيبراني، وتكنولوجيا الكم.. كلها صارت أسلحة لا تقل خطرًا عن الرؤوس النووية، بل ربما أشد فتكًا لأنها تسيطر على العقول قبل أن تدمر الجسد.
لكن الرد الأمريكى لم يتوقف عند حدود الاستعراض التكنولوجي. إعلان ترامب عن إعادة تسمية وزارة الدفاع لتعود إلى اسمها القديم «وزارة الحرب» لم يكن مجرد خطوة رمزية، بل تعبير عن تحوّل فى العقيدة الأمريكية: نحن فى مواجهة، لسنا فى حالة دفاع، بل فى حالة هجوم دائم. هذه العودة إلى مفردات الماضى تفتح الباب أمام مستقبل شديد القسوة، حيث تعود اللغة العسكرية لتكون عنوان المرحلة، فى مواجهة قوة صاعدة لا تعبأ بالتحذيرات الغربية.الصراع لم يعد أمريكيًا – صينيًا فقط، فالقارة الأوروبية دخلت على الخط بطريقة مختلفة. بروكسل أعلنت فرض ضريبة على عملاق التكنولوجيا الأمريكى «جوجل»، فى خطوة تعكس رغبة أوروبية فى انتزاع نصيبها من كعكة الاقتصاد الرقمى العالمي، وإثبات استقلالية القرار بعيدًا عن هيمنة واشنطن. الرد الأمريكى كان غاضبًا وسريعًا، وواشنطن رأت فى الأمر طعنة من حليف يفترض فيه أن يقف بجانبها فى مواجهة بكين، فإذا به ينافسها ويضغط عليها اقتصاديًا.
هكذا، نجد أنفسنا أمام لوحة جديدة من الصراع الدولي. الصين تستخدم استعراض القوة العسكرية لترسيم قواعد اللعبة، أمريكا ترد بالثورة التكنولوجية وإحياء مصطلح «وزارة الحرب»، وأوروبا تبحث عن دور مستقل عبر الاقتصاد والضرائب الرقمية. البنادق تغيّرت، والميادين تبدّلت، لكن جوهر الصراع لم يتغير: صراع على الهيمنة، على النفوذ، على من يملك حق صياغة المستقبل.
إنها حرب باردة جديدة، لكنها هذه المرة أكثر شمولاً: تمتد من السماء إلى الفضاء الإلكتروني، ومن شوارع بكين إلى مراكز البيانات فى كاليفورنيا، ومن مصانع السلاح إلى خوادم جوجل وأمازون. العالم أمام مرحلة يعاد فيها رسم خرائط القوة، والشرق الأوسط بطبيعة موقعه وثرواته سيكون ميدانًا مفتوحًا لتجاذبات هذه القوي، بين طموح صينى للتمدد، وسعى أمريكى لتثبيت الهيمنة، ورغبة أوروبية فى انتزاع مكان على الطاولة.
الدرس الواضح أن عصر الحياد انتهي، وأن كل دولة ستُجبَر على اختيار موقعها فى هذه الحرب الباردة الجديدة. لكن الأهم أن نفهم أن المعركة القادمة لن تُدار فقط بالبارود، بل بالعقول والاقتصاد والضرائب والذكاء الاصطناعي. إنها حرب بأدوات القرن الحادى والعشرين، لكنها لا تقل شراسة عن كل الحروب التى سبقتها.









