لم يعد التنافس بين الصين والولايات المتحدة مجرد شد وجذب اقتصادى أو نزاع تجارى على الأسواق، بل تحول إلى ما يشبه حربًا شديدة البرودة، تختلف عن الحرب الباردة الكلاسيكية التى شهدها القرن العشرون بين واشنطن وموسكو، لكنها لا تقل عنها خطورة. العرض العسكرى الصينى الأخير كان بمثابة جرس إنذار مدوٍ للعالم الغربي؛ صواريخ عابرة للقارات، أسلحة فرط صوتية، قدرات فضائية متقدمة، كلها عُرضت على الملأ فى استعراض للقوة أرادت به بكين أن تقول: لقد صرنا قوة كاملة الأركان، ولسنا مجرد ورشة صناعية للعالم كما يحلو للبعض أن يصفنا.
الولايات المتحدة لم تُخف قلقها، وظهر هذا فى تصريحات دونالد ترامب الذى حذر من أن الصين تهدد المكانة الاقتصادية والعسكرية لأمريكا، مشيرًا إلى أن بكين تخوض معركة طويلة النفس لإزاحة واشنطن من عرش القيادة العالمية. أما كايا كالاس، الممثلة العليا للسياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبى ورئيسة وزراء إستونيا السابقة، فقد رأت أن الصعود الصينى يفرض على الغرب أن يتعامل مع بكين بوصفها التحدى الأكبر، ليس فقط لأوروبا بل للنظام الدولى الذى اعتاد على هيمنة القطب الواحد. كلمات ترامب وكالاس تكشف عن إدراك غربى متزايد بأننا أمام مرحلة انتقالية، وأن قواعد اللعبة لم تعد كما كانت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
العالم اليوم يتحرك من أحادية قطبية فرضتها أمريكا لعقود إلى مشهد جديد متعدد الأقطاب، فيه الصين وروسيا والبريكس، ومعهم قوى إقليمية تبحث عن مقاعد مؤثرة فى النظام الدولى القادم. هذه ليست نظرية سياسية أو مجرد استشراف، بل واقع بدأ يتجسد على الأرض. العرض العسكرى الصينى كان ترجمة عملية للصعود الذى لم يعد اقتصاديًا فقط، بل عسكريًا وسياسيًا أيضًا، ومبادرة الحزام والطريق ليست سوى الوجه الاقتصادى لمشروع استراتيجى أوسع يريد أن يربط آسيا وإفريقيا وأوروبا بشبكة نفوذ صينية لا تقل قوة عن نفوذ أمريكا عبر مؤسساتها وتحالفاتها.
لكن السؤال الأهم: ماذا يعنى هذا للشرق الأوسط؟ المنطقة التى كانت دائمًا ساحة للصراع بين القوى الكبري، من الحرب الباردة إلى غزو العراق إلى صراعات النفط والغاز. الشرق الأوسط يمتلك موقعًا جغرافيًا لا غنى عنه ومصادر طاقة تشكل شريان الاقتصاد العالمي، وهو ما يجعله فى قلب أى معادلة دولية. ومع صعود الصين، تتغير قواعد اللعبة: لم يعد الغرب وحده يملك مفاتيح الضغط، ولم تعد أمريكا قادرة على فرض إرادتها بلا منازع. بكين تدخل المنطقة عبر الاستثمارات والبنية التحتية والتعاون فى الطاقة، وروسيا عبر النفوذ العسكري، وأمريكا عبر التحالفات التقليدية. وهنا تبرز الفرصة والتحدى فى آن واحد.
الفرصة تكمن فى أن تعددية الأقطاب تمنح دول المنطقة مساحة أوسع للمناورة، فلا تبقى أسيرة للقطب الأمريكى وحده. يمكن للشرق الأوسط أن يستفيد من التنافس بين واشنطن وبكين للحصول على أفضل العروض فى مجالات التكنولوجيا والطاقة والاستثمار. أما التحدى فيكمن فى ألا تتحول المنطقة إلى ساحة صراع بين القوى الكبري، كما حدث مرارًا فى التاريخ، لأن الثمن هذه المرة سيكون أكبر فى عالم مترابط اقتصاديًا وتكنولوجيًا بهذا الشكل.
ما يجب أن يفعله الشرق الأوسط هو أن يتحرك بعقل استراتيجى لا بعاطفة سياسية. أن يبنى شراكات متوازنة مع الصين دون أن يقطع جسوره مع أمريكا، وأن يستخدم أوراق قوته فى الطاقة والموقع الجغرافى لحماية مصالحه لا لخدمة أجندات الآخرين. المنطقة بحاجة إلى رؤية واضحة ترى فى تعددية الأقطاب فرصة لتكبير هامش القرار المستقل، لا تهديدًا يدفعها إلى الاحتماء بظل هذا القطب أو ذاك.
إنها حرب شديدة البرودة بالفعل ليست حربًا نووية كما كانت هواجس القرن الماضي، لكنها صراع محتدم على التكنولوجيا، على التجارة، على النفوذ، وعلى من يرسم قواعد النظام الدولى القادم. والصين تقول بوضوح: زمن القطب الواحد انتهي. وأمريكا تصرخ: لن نترك العرش بسهولة. وأوروبا تتخوف من أن تصبح مجرد هامش فى معادلة القوي. أما الشرق الأوسط فعليه أن يختار: إما أن يكون مجرد ملعب يتصارع عليه الآخرون، أو لاعبًا ذكيًا يعرف كيف يوظف هذا الصراع لصالح مستقبله.