«نصر أكتوبر» و»ثقافة الانتصار» التى تنتقل من عقول ووجدان وأيادى أصحبها «الآباء» لعقول ووجدان وأيادى الأبناء، الذين اتفقوا فى حَكّيهم عن الصهاينة الأعداء بأمور عديدة منها ما اعتاد عليه العدو الصهيونى من تكتيكات الحرب، وهى تقسيم أنواع هجماتهم إلي: الهجوم الرئيسى والذى قد يبدو للمراقب بأنه الهجوم الحقيقى من حيث العدد والعتاد والتوقع على سبيل المثال، ثم الهجوم الثانوى وهو الذى يبدو بكونه ضعيفا وغير مؤثر، وثالثا الهجوم الخداعي، والذى يبدو وكأنه إلهاء عن اتجاه ونوايا وقوة الهجوم الحقيقي، ومن خلال هذا التكتيك الذى احترفه العدو الصهيوني، والذى لا يكشف عن حقيقة الهجوم الحقيقى ونواياه واتجاهه ومدى تأثيره، فلا يعلم الخصم من أين تأتى الضربة الموجعة والقتال الحقيقي، فتضطرب أفراسه وتموج قدراته وتتشتت قرارات القتال، لكن المصريين هم من فطنوا لهذا التكتيك، بل وتبينوا نوايا القتال الحقيقى من الوهمي، ففى كل معركة من معارك «أكتوبر» كانت الغلبة للمصريين.
ويبدو أن مقتضى الحال الآن يشى بجلاء عن تكتيكات العدو الصهيونى المعتادة، ونحن المصريين كما ورثنا النصر من آبائنا صُنّاعه، كذلك تعلمنا منهم «احترافه» ويبدو أن المفاوضات التى تبدأ ثم تتعثر ثم تتوقف، وتتبدل فيها أدوار الطرح والرفض بين الجانبين الصهيونى والحمساوي، حتى أنه من العبث «الفج» أن نرى ذات الطرح فى موضوع المفاوضات يطرحه الصهاينة ويرفضه الحمساويين، ثم تتجمد المواقف، ويسيل الدم الفلسطينى نهراً متجدداً، ثم تعود المفاوضات بالطرح ذاته فى عرضه الحمساويون ويرفضه الصهاينة، فتتوقف من جديد المفاوضات، ويسيل نهراً جديداً من الدم الفلسطيني، ومع تبادل الأدوار على المسرح «الغزاوي» تصب كل أنهار الدم فى بحر واحد، عنوانه «يبقى الوضع كما هو عليه».
وينشغل الرأى العام الاقليمى والعالمى بالفرجة على هذه المسرحية الهزلية (!) التى يتقاسم فيها أدوار البطولة الحمساويون والصهاينة (الأعداء) لكن مع إعلان الأمم المتحدة ـ صراحة ـ بأن غزة أصبحت على شفا الموت جوعا، وهنا قد يبدو أن هذه المفاوضات من عظيم أثرها هي: المعركة الحقيقية، وأن هدفها هو إبادة أهل غزة ، ويكثر الحديث بين منصات وسائل الإعلام عن ما يسمى «التطهير العرقي» و»مجاعة الإبادة» وغيرهما من المصطلحات التى لا غرض منها سوى تشتيت الانتباه عن الهدف الحقيقي، والذى قد يبدو أنه فى تهجير الغزاويين خارج أرضهم «التاريخية» وهنا تبرق معركة ثانية والتى تستحوذ على قدر عظيم من الانتباه، وتستهلك مساحة شاسعة من الإهتمام اللإقليمى والعالمى أيضا، حتى تتناول وسائل الإعلام العابرة للقارات أسماء دول من ليبيا فأثيوبيا وربما أشباه الدول التى لم يعترف بها حتى أهلها (!) كأرض الصومال… ولجميعهم أسبابهم السياسية ما بين المهادنة إلى العدائية، ولكن يصحو الرأى العام العالمى على استحالة ـ عمليا ـ فى تحقيق هذه الحرب لأهدافها المعلنة والمسكوت عنها، فما أصعب من إنفاق المئات من المليارات الدولارية ومعها السنوات الطويلة لتكلفة نقل أكثر من مليونين من الغزاويين، إذا افترضنا ـ جدلًا ـ استسلامهم لحالة التهجير وتلك أيضا فرضية مستحيلة الحدوث… وهنا تلوح فى الأفق معركة ثالثة مع تصديق «الكابينت» على احتلال غزة وتبديل مفردة «الاحتلال» إلى «السيطرة» لتخلى الصهاينة الأعداء عن الالتزامات القانونية التى اقرتها المعاهدات والمواثيق التى صاغتها الأمم المتحدة فى التزام دولة الاحتلال برعاية شعب الدولة المُحتلة، ولأن الصهاينة لايدينون بأية قيم انسانية، ولا يعتقدون بالمباديء الأخلاقية، ولا يعبأون بالقيم الروحية التى تفرق بين تحضر الانسان وهمجيته (!) ومع اعلان التعبئة داخل الكيان الصهيونى واستدعاء (60) الفاً من جنود الاحتياط وتجميع (6) فرق عسكرية بأرض غزة التى لا تحتاج ـ عسكريا ـ لهذا العدد الهائل من الجنود والعتاد، وهنا يأتى الدور على درس آخر قدمه لنا الآباء صُناع نصر أكتوبر وهو: أن العدو الصهيونى من عقيدته القتالية لا يحارب داخل أرضه، إنما يفرض على القوات الى يتصدى لها بما يسمى «الحدود الآمنة» وبذلك يخلق العدو معسكرات تجميع لقواته البرية لتكون بمثابة قواعد انطلاق للهجوم على قوات برية «نظامية».
ومن هنا يتضح أن المفاوضات ليست المعركة الحقيقية وكذلك ليس التهجير، وكلاهما معارك خداعية وثانوية، وإنما تتكشف نوايا العدو بجلاء بعد إعلان نتنياهو عن أضغاث أحلامه (!)