فى هذا العالم البائس المزدحم بالمآسي، تتضافر الشرور وتطرب دورنا .. حيث غزة تتصدر نشرات الأخبار، ويجرى الحديث عن مأساة الفلسطينيين ليل نهار، يظل السودان يعانى فى صمت، كجرح مفتوح لا يلتفت إليه أحد، وكأن دماء السودانيين أقل قيمة، وكأن الخراب فى الخرطوم ودارفور لا يستحق أن يوقظ ضمير العالم.
منذ اندلاع الحرب بين الجيش ومليشيا الدعم السريع فى أبريل 2023، تحولت السودان إلى ساحة دمار شامل. التقارير الأممية والحقوقية تكشف حجمًا مرعبًا للأزمة: أكثر من 14 مليون نازح ومشرّد، بينهم ما يزيد على 8.8 مليون نازح داخلي، وأكثر من 3.5 مليون لاجئ خارج الحدود. أما القتلي، فتتراوح التقديرات بين 28 ألفًا وفق تقارير موثوقة، وبين 60 ألفًا فى الخرطوم وحدها خلال أربعة عشر شهرًا، بينما تشير دراسات أكثر جرأة إلى أن الرقم الحقيقى قد يتجاوز 150 ألف قتيل، إذا أُضيفت وفيات الجوع والمرض وانهيار النظام الصحي. الكارثة لا تقف عند هذا الحد، إذ يواجه 25 مليون سودانى أى أكثر من نصف السكان ـ احتياجات إنسانية عاجلة، بينهم 700 ألف طفل يعانون من سوء تغذية حاد، وبيانات مريرة تتحدث عن وفاة أكثر من نصف مليون طفل بفعل الجوع والمرض.
وفى المقابل، غزة، التى لا نقلل من مأساتها، تحظى بتركيز عالمى غير مسبوق. منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى صيف 2025، أعلنت وزارة الصحة فى غزة مقتل ما لا يقل عن 59,219 فلسطينيًا، بينما تقديرات أخرى ترفع الرقم إلى 64,260 قتيلًا. أكثر من 143 ألف جريح، و83٪ من الضحايا مدنيون، معظمهم من النساء والأطفال. أزمة النزوح بلغت ذروتها: نحو 1.9 مليون فلسطينى من أصل 2.3 مليون هجّروا قسرًا، أى ما يعادل 82.6٪ من سكان القطاع.
لكن هنا تبرز المفارقة الأخلاقية: غزة، رغم عمق مأساتها، لا تغيب عن الشاشات. مجلس الأمن عقد أكثر من 20 اجتماعًا طارئًا بشأنها، وسائل الإعلام العالمية خصصت مئات الساعات من البث المباشر، والمجتمع الدولى قدّم تعهدات بمليارات الدولارات من المساعدات. بينما السودان، بكل ما يحمله من نزيف بشرى ومجاعة وانهيار، لم يحظَ إلا ببيانات شحيحة واهتمام بارد. كأن دماء السودانيين خارج جدول الأعمال الدولي، وكأن الجوع فى دارفور لا يثير شهية العواصم الكبرى للتحرك.
والحقيقة المؤلمة أن العالم يتعامل مع السودان على أنه أزمة بلا مصالح. فى غزة هناك إسرائيل، وهناك حسابات كبرى تحكمها واشنطن وتل أبيب، بينما فى السودان لا نفط يغري، ولا أوراق ضغط تشعل شهية القوى الكبري. النتيجة: مجزرة صامتة تُترك لتأكل جسد الدولة، فيما يُكتفى ببيانات قلق لا تُسمن ولا تغنى من جوع..لكن الأخطر أن السودان ليس مجرد دولة أخرى تتهاوي. موقعه على البحر الأحمر، واتصاله المباشر بأمن مصر وليبيا وتشاد وإثيوبيا، يجعله حجرًا استراتيجيًا فى قلب المنطقة. انهياره يعنى فوضى إقليمية، موجات لجوء هائلة، انتشارًا للإرهاب العابر للحدود، وسقوط دولة بحجم قارة فى فراغ مرعب.
إن ترك السودان لمصيره هو جريمة مزدوجة: جريمة بحق شعبه الذى يذبح يوميًا بعيدًا عن الكاميرات، وجريمة بحق المنطقة التى قد تدفع ثمن الانفجار لاحقًا. العالم اليوم مطالب بمراجعة ضميره، لكن قبل ذلك، على العرب والأفارقة أن يتحركوا. على الجامعة العربية والاتحاد الأفريقى أن يخرجا من دائرة البيانات إلى ميدان الفعل، لأن الصمت هنا ليس حيادًا، بل مشاركة فى الجريمة.
السودان اليوم يصرخ فى صمت، يذبح بعيدًا عن الأعين، بينما العالم يوزّع عدالته بميزان المصالح. إن دماء الخرطوم ودارفور لا تقل حرمة عن دماء غزة، لكن المعايير المزدوجة جعلت من الأولى أزمة منسية، ومن الثانية قضية عالمية. والتاريخ لن يرحم من صمت، ولن يغفر لمن تواطأ بالصمت أو باللامبالاة. السودان لا يحتاج بيانات قلق، بل يحتاج صحوة ضمير، قبل أن نفيق جميعًا على خبر موت دولة بأكملها.