تبذل الدولة المصرية، بقيادة فخامة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، جهوداً كبيرة فى ظل ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد.
هذه الجهود التي تستهدف الحفاظ على استقرار الدولة وحماية المواطن تحتاج فى المقابل إلى جهاز إداري تنفيذي معاون يترجم التوجهات والرؤى والسياسات العليا إلى ممارسات يومية تُعزز الثقة مع المواطنين والعاملين بكافة أجهزة الدولة ولا تضعفها.
وتُعد الزيارات الميدانية للمسؤولين فرصة ذهبية لتقريب هذه الصورة من المواطنين – إذا ما استُغلت بكفاءة وفاعلية – من خلال شرح وتفسير مباشر للتوجهات والقرارات الحكومية وبرامجها القومية، بما يمكن المواطنين من فهم الدوافع والأهداف، ويحول الموقف من قرارات مجردة إلى إنجازات ملموسة. وهنا تتجسد فلسفة الإدارة بالتجوال Management by Wandering Around (MBWA) كمدخل إدارى، يقوم على وجود المسؤول بين الموظفين والمواطنين للتواصل والاستماع والتحفيز والتعرف على مجالات التحسين والتطوير، لا لمجرد التفقد والتفيش عن النقاط السلبية أو القاء اللوم أو البحث عن الظهور الإعلامي.
وقد شدد الرئيس فى أكثر من مناسبة على حتمية إشراك المواطن فى فهم ما يجرى، مؤكداً فى أكثر من موقف أن يقوم المسؤول بالشرح للمواطنين وأن يكون المواطن على دراية كاملة لماذا عليه أن يتحمل ولماذا يجب عليه أن يشارك. هذه التوجيهات توضح أن التواصل ليس ترفاً إدارياً أو خياراً للمسؤول، بل هو أداة جوهرية لنجاح أي برنامج حكومي أو غير حكومي.
لكن ما يحدث أحياناً أن بعض المسؤولين يتعاملون مع هذه الزيارات بطريقة عكس فلسفتها الأصلية. فبدلاً من الحوار والوقوف على نقاط الضعف أو عدم توافر الكفاءات والمهارات أو الامكانات الفنية المساعدة، يلجأ البعض إلى توجيه اللوم والانتقاد العلني للأداء بشكل قد يتجاوز حدود السلطة الوظيفية، مما يثير استياء العاملين والمواطنين على حد سواء. الموظف يرى فى ذلك عدم تقدير وانقاصاً من شأنه، والمواطن يقرأه كتعسف أو استعراض للسلطة. الأخطر أن بعض المسؤولين يتخذون قرارات فورية ومتسرعة أثناء الزيارة، تحت ضغط الحضور والتغطية الإعلامية أو الحضور من المواطنين، دون تحرى وتشخيص دقيق للأسباب وهل الأسباب تحت سيطرة وتحكم الموظف أما أسباب تخرج عن اختصاصه ومسؤوليته، فتأتى النتائج عكسية وتؤثر سلباً ليس فقط على صورة المسؤول بل تعطى الفرصة للمتربصين وأعداء الوطن في توجيه ادعاءات باطلة لأداء الحكومة ككل.
أن ما نراه من خلال تقييم زيارات بعض السادة المسؤولين وخاصة في نطاق المستوى الإداري التنفيذي يطرح العديد من الأسئلة والتي يمكن أن نذكر منها: هل يقوم المسؤول بعد الزيارة بمتابعة ما طرحه، وجمع التغذية الراجعة، ومنح المؤسسات فرصة للتطوير ثم العودة لاحقاً للتأكد من النتائج؟ أم أن الأمر يتوقف عند المشهد الأول ورد الفعل اللحظي؟ وهل تتم هذه الزيارات وفق آلية مؤسسية واضحة في الاختيار والمتابعة والتقييم، أم أن تلك الزيارات الميدانية تتم بأسلوب رد فعل لأحداث طارئة أو ضغوط إعلامية؟ إن غياب المنهجية يحوّل الزيارة من أداة للمتابعة والتقويم إلى مجرد أداة للجدل وزرع الفتن.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك مسؤولين استطاعوا تحويل زياراتهم الميدانية إلى رسائل إيجابية وقرارات عملية. فحين يحرص المسؤول على الاستماع أكثر من الحديث واللوم، وعلى شرح خلفيات القرارات قبل تطبيقها، وعلى متابعة ما تم الاتفاق عليه في زيارات سابقة، فإن ذلك يخلق أثراً مختلفاً تماماً. المواطن يشعر حينها بأن الدولة حاضرة بجانبه، والموظف يدرك أن الهدف هو تطوير الأداء لا تصيد الأخطاء. وهناك بالفعل نماذج كثيرة لزيارات لمسؤولين انتهت بقرارات إصلاح واقعية أو بفتح أبواب للحوار مع المواطنين، مما عزز الثقة ورسّخ صورة إيجابية عن الجهاز التنفيذي للدولة.
إن الحل يكمن في إعادة الاعتبار لفلسفة “الإدارة بالتجوال” كمنهج وأسلوب لزيارات المسؤولين وعدم النظر إليها على أنها مجرد “جولة أو زيارة”، والاعتراف بأن الإدارة الرشيدة للزيارات الميدانية لا تقل أهمية عن صياغة السياسات الحكومية ذاتها. هذه الفلسفة تقوم على الإصغاء قبل اتخاذ القرار، وعلى التحفيز قبل إلقاء اللوم، وعلى تحويل الملاحظة إلى خطة عمل قابلة للتنفيذ، والمشاركة من قبل العاملين والمواطنين لا الفردية من قبل المسؤول التنفيذي فى اتخاذ قرارات التطوير والتحسين، مع تأكيد على المتابعة المؤسسية والشفافية في عرض النتائج. بهذا الشكل فإن الزيارات الميدانية للمسؤولين تتحول من عبء أو مشهد إعلامي إلى أداة حقيقية للتغيير والبناء.
فى النهاية، تبقى الزيارات الميدانية مسؤولية مزدوجة: مسؤولية الدولة فى أن تجعلها جزءً من آلية مؤسسية واضحة ومتابعة منهجية، ومسؤولية المسؤول التنفيذي في أن يتعامل معها كأداة للتطوير والتواصل. عندها فقط يمكن أن تصبح هذه الزيارات وسيلة لتعزيز الثقة وتوحيد الصف الداخلي.