من قال لك إن السميعة انقرضوا، قل له: اخرس، فأنت لم تذهب إلى حفلات الموسيقى العربية المحجوزة لأشهر مقدماً ولا رأيت هذه الأبهة التى تحيط بحفلات عمر خيرت وهى أيضا لها نوعية خاصة، تجلس لساعات تستمع إلى الموسيقى فقط صافية خالصة، وكأنها تأخذ بها جرعة مضاد حيوى يساعدها على اتقاء شر موسيقى الفظائع وخبط الحلل وأغانى المساطيل والشعوذة والكلام المرصوص الفارغ الذى يحتمى خلف الإيقاع الصاخب..
ومن هنا جاءت فكرة الاستماع إلى المغنى وقوفاً تشبهاً بالخواجات، بل ان هناك من يقلدهم فى ملابسهم المبهدلة واستخدام الآلات الغربية والحركات الأغرب، وكأننا قد خلعنا ثوب شرقيتنا وتحولنا إلى قطيع كلما رأينا تقليعة قلدناها بصرف النظر عن قيمتها، والفن أساسه الإبداع والابتكار، وأن يعبر عنك وعن بيئتك، ولا تقل لى إن أغانى المهرجانات هذه تعبر عن حالة موجودة، فهل مهمة الفن أن يأتى بما يدور فى الشارع إلى الشاشة والميكرفون أو يحدث العكس ونأخذ ما يدور فى الشارع ونقدمه فى ثوب يليق بنا ويرفع مستوانا؟!
ألم تسمعوا عن هذا اليتيم الذى عاش فى الملجأ وخرج يكتب سيرة الوطن فى أهم مراحله على ضفاف حنجرته، كان اسمه عبدالحليم حافظ.. وهذه الفلاحة الفصيحة التى خرجت من طماى الزهايرة لكى تدخل بقصائد أحمد شوقى وإبراهيم ناجى وحافظ إبراهيم وكبار شعراء العرب والعجم إلى الحوارى والأزقة كل ليلة خميس واسمها أم كلثوم ابنة الحاج ابراهيم.
وهل نسيت العبقرى محمد فوزى والمبدع منير مراد والأستاذ كمال الطويل والفلتة بليغ حمدي، والأصيل محمد الموجى وحناجر شهرزاد وسعاد محمد وعبدالعزيز محمود وكارم محمود ومحمد قنديل ووردة وشادية وفايزة.. طابور طويل تنافس لأجل الحب والجمال والوطن، وأيضا لأجل الله من قبل ومن بعد.
وهل سمعت عن ابن باب الشعرية أنه تحدث عن السيارات التى يمتلكها، أو ظهر فى حفل بالشورت والفانلة يقفز مثل المكوك على المسرح كأن به لوثة أخذت عقله، إنه الأستاذ الذى أخذ من الغرب ما ينفع الشرق وما يحافظ على أسلوبنا، فكان محمد عبدالوهاب وتاريخنا حافل ولست هنا فى مجال استعراض كل هذه الجواهر، لكنها مجرد مقدمة وصولاً إلى محطة نويرة وما أدراك ما نويرة.
مطرب وملحن
هو شرقاوى ينتمى إلى قرية الصالحية مركز فاقوس، ولكنه درس فى القاهرة، وكما تعلم الفرنسية حفظ القرآن الكريم شأن معظم أبناء هذه الأجيال، وبه تستقيم.. ويبحث الفتى عن طريقه سواء فى العلم أو الفن أو الرياضة، هكذا نجح الأكابر فى تلك الأزمنة، مثلما كان زميله المسيحى يعتصم بالانجيل ويرتبط بالكنيسة.
رأى عبدالحليم نويرة فى بداية حياته والده يصاحب كبار أهل المغنى والموسيقي، ومن شب على شيء شاب عليه، وعندما بلغ أشده اتجه إلى دراسة الموسيقى إلى جانب العلوم الأخرى فى المدرسة الثانوية، وقد دخل الإذاعة مطرباً وملحناً بعد حصوله على دبلوم الموسيقى العربية عام 1936، ومن أشهر تلاميذه كمال الطويل وعبدالحليم حافظ والموجى وبليغ حمدي، وله أغنيات شهيرة بأصوات فايزة وشادية ووردة وكارم محمود وعبدالعزيز محمود، وكتب الموسيقى التصويرية لأكثر من 100 فيلم كان أولها «أحب الغلط» وهو الذى استخدم الموسيقى لكى يصحح مسار النغم.
وقد حكى نجيب محفوظ فى مذكراته عن صداقته بالأخ الأكبر لعبدالحليم وهو د.فؤاد نويرة الذى كان سبباً فى لقاء كاتب نوبل مع المخرج صلاح أبوسيف، وبالتالى دخوله عالم السينما من باب كتابة السيناريو، وقد فعلها رغم أنفه ومن باب التسلية وزيادة الدخل وكان أجره فى حدود المائة جنيه أو أكثر قليلاً، حتى أصبح رصيده 13 فيلماً بخلاف ما تم إنتاجه عن قصصه ورواياته.
ولأن الفن من الأسلحة الناعمة للدول المتحضرة، أراد الرئيس جمال عبدالناصر أن يحافظ على تراث الموسيقى الشرقية وحوّل حلم نويرة إلى فرقة قومية بقرار جمهورى 1967 وتحولت من حدث محلى إلى سفيرة تطوف بلدان العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، تقدم الروائع الشرقية وفى كل مكان كانت تترك بصمة صعب نسيانها، ونالت التكريم على مستوى رؤساء وقادة الدول.
زميل السادات
كان يجلس فى المدرسة الثانوية جنباً إلى جنب مع الطالب أنور السادات، وجمعتهما صداقة قوية، ولما ذهب بعد ثورة 23 يوليو يقدم التهنئة ودخلت سكينة السادات تقدم الشاى للضيف وكانت ابنة الخامسة عشرة، وبعدها بأيام جاء يطلب يد الأمورة، وهى كاتبة صحفية كبيرة كانت تنتمى إلى مؤسسة «دار الهلال»، وربما تكون هذه المعلومة جديدة على الكثير ممن يقرأ هذه السطور، لأن نويرة لم يكن له من اهتمام إلا الموسيقى فقط، وفلسفته أن ننفتح على جميع المدارس ثم نقدم ما يليق بنا ويتفق مع ثقافتنا، وكانت نظرة إنشاء فرقة الموسيقى العربية بعيدة المدى لمحاربة التقاليع والفظائع بالأصالة والروائع.
ولأن الإنشاد الدينى فيه من الفن وفيه من الدين، أسس نويرة فرقة الإنشاد الديني، لأن مصر بقدر ما فيها من عمالقة التلاوة والتجويد رفعت وعبدالباسط والمنشاوى والبنا والطبلاوى وغلوش وشعيشع والدمنهورى والباسوسى والصياد والشحات، فيها أيضا النقشبندى وطوبار والفشنى وعلى محمود، عظائم الإنشاد الديني.
وقد ظهرت فى السودان والمغرب والأردن وسوريا عدة فرق على نمط فرقة نويرة، التى عادت تحمل اسمه مجدداً.
يفرض السؤال نفسه بعد رحيل هذا الرائد العملاق بـ 30 سنة، ماذا لو أن فرقة الموسيقى العربية التى لا تفتح أبوابها ولا تسمح لأحد أن يقترب من ميكروفونها إلا إذا كان يحمل جواز سفر الأصالة الغنائية، وعندها تجد الحجار ومدحت والحلو وهانى وثروت وأنغام كأنهم أصوات أخرى فى حضرة هذه الفرقة التى هى الآن تقاتل المتدنى بالغالى والقبيح بالجميل، وقلة الذوق، بالرقى والفخامة.. فهل نحتاج إلى مثل هذه الفرقة فى السينما والمسرح والدراما التليفزيونية والإذاعة؟!
الإجابة متروكة لكم.