أواصل الحديث عن الإستراتيحية الوطنية للتصنيع، وأتحدث اليوم عن جذب الاستثمارات الصناعية. وفى عالم تتسارع فيه وتيرة التنمية الاقتصادية وتتغير فيه خريطة الإنتاج العالمي، تبرز مصر كوجهة استثمارية صناعية واعدة، مدفوعة بجهود حثيثة لجذب رءوس الأموال المحلية والأجنبية. إن جذب الاستثمارات الصناعية ليس مجرد هدف اقتصادي، بل هو ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الشاملة، وخلق فرص عمل مستدامة، وتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد المصري. وتتطلب هذه العملية نهجاً متكاملاً وشاملاً يجمع بين تحسين البيئة التشريعية، وتطوير البنية التحتية، وتقديم حوافز جاذبة، وتوفير العمالة الماهرة، والتسويق الفعال للمزايا النسبية التى تتمتع بها البلاد.
وعلى الصعيد التشريعي، اتخذت الحكومة المصرية خطوات جادة لتبسيط الإجراءات وتسهيل تأسيس الشركات الصناعية، عبر إصدار قوانين جديدة للاستثمار، مثل قانون الاستثمار رقم 72 لسنة 2017، الذى يمنح المستثمرين العديد من الضمانات والحوافز، ويؤسس لآلية «النافذة الواحدة» التى تجمع كل الإجراءات اللازمة فى مكان واحد، مما يقلل من البيروقراطية ويختصر الوقت والجهد. كما تم إصدار قانون جديد للتراخيص الصناعية يهدف إلى تقليص الفترة الزمنية للحصول على التراخيص من مئات الأيام إلى أيام معدودة، مما يعكس التزاماً حقيقياً بتذليل العقبات أمام المستثمرين. هذه الإصلاحات التشريعية تخلق بيئة أكثر جاذبية وثقة للمستثمرين المحليين والدوليين، وتضمن لهم حماية حقوقهم وتيسير أعمالهم.
أما على صعيد البنية التحتية، فقد شهدت مصر طفرة غير مسبوقة فى تطوير المناطق الصناعية، وإقامة مدن جديدة متكاملة مثل «المنطقة الاقتصادية لقناة السويس» و»العاصمة الإدارية الجديدة» و»مدينة العلمين الجديدة»، التى تم تصميمها لتكون مراكز صناعية ولوجستية عالمية. ويتميز موقع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس بكونه محوراً تجارياً ولوجستياً عالمياً يربط الشرق بالغرب، مما يمنح المستثمرين ميزة تنافسية فريدة. تم استثمار مليارات الدولارات فى تطوير شبكات الطرق والسكك الحديدية والموانئ والمطارات، مما يسهل حركة السلع والمواد الخام ويعزز كفاءة سلاسل الإمداد. كما تم التركيز على توفير مصادر الطاقة بأسعار تنافسية، سواء من الغاز الطبيعى أو الطاقة المتجددة، مما يقلل من تكاليف الإنتاج ويجعل مصر وجهة مغرية للصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة.
ولتعزيز جاذبية الاستثمارات، تقدم الحكومة المصرية حزمة من الحوافز المالية والضريبية للمستثمرين الصناعيين. وتشمل هذه الحوافز إعفاءات ضريبية على الأرباح لفترات محددة، واسترداد جزء من تكلفة الأراضى المخصصة للمشاريع الصناعية، ودعم الصادرات، وتقديم قروض ميسرة من البنوك الحكومية. كما يتم التركيز على تقديم حوافز خاصة للمشاريع التى تستخدم التكنولوجيا المتقدمة وتعتمد على البحث والتطوير، بهدف تشجيع الصناعات ذات القيمة المضافة العالية، والانتقال من الصناعات التقليدية إلى الصناعات المستقبلية التى تعتمد على الذكاء الاصطناعى والتكنولوجيا الرقمية.
ويعتبر توفير العمالة الماهرة والمدربة عنصراً حيوياً فى جذب الاستثمارات الصناعية. وتتمتع مصر بقوة عاملة شابة وكبيرة، ولكن يتطلب الأمر استثماراً مستمراً فى التعليم والتدريب المهنى والفنى لضمان توافر الكفاءات المطلوبة لمختلف القطاعات الصناعية. كما تعمل الحكومة على تطوير المناهج الدراسية فى المدارس الفنية والمعاهد المهنية، بالتعاون مع القطاع الخاص، لضمان توافق مخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل. كما يتم إطلاق برامج تدريبية متخصصة للعاملين الحاليين لرفع كفاءتهم وتزويدهم بالمهارات التكنولوجية الحديثة. هذه الجهود تخلق جسراً بين التعليم وسوق العمل، وتضمن توفير الكوادر البشرية اللازمة لتشغيل المصانع بكفاءة.
لم يقتصر الأمر على الإصلاحات الداخلية، بل امتد ليشمل التسويق الفعال للمزايا النسبية لمصر. وتعمل هيئة الاستثمار العامة والمناطق الحرة بالتعاون مع وزارة التجارة والصناعة على تنظيم مؤتمرات ولقاءات دولية لجذب المستثمرين، وعرض الفرص المتاحة فى مختلف القطاعات، مثل صناعة السيارات، والمنسوجات، والبتروكيماويات، والصناعات الغذائية، والصناعات الدوائية. ويتم تسليط الضوء على الموقع الاستراتيجى لمصر كبوابة لإفريقيا والشرق الأوسط، واتفاقيات التجارة الحرة التى وقعتها مع العديد من الدول والكتل الاقتصادية، مما يمنح المنتجات المصرية ميزة الوصول إلى أسواق ضخمة.
إن جذب الاستثمارات الصناعية فى مصر يمثل رحلة مستمرة تتطلب التزاماً طويل الأجل، وتنسيقاً بين مختلف الجهات الحكومية والقطاع الخاص، واستماعاً مستمراً لاحتياجات المستثمرين. ومن خلال مواصلة الإصلاحات التشريعية، وتطوير البنية التحتية، وتقديم حوافز جاذبة، وتأهيل القوى العاملة، والتسويق الفعال، ستتمكن مصر من ترسيخ مكانتها كمركز صناعى إقليمى ودولي، وتحقيق طموحاتها فى التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة. إن كل مصنع جديد يقام فى مصر ليس مجرد إضافة للناتج المحلى الإجمالي، بل هو نواة لمجتمع جديد، وفرصة عمل لشاب، وخطوة نحو مستقبل أكثر إشراقاً وازدهاراً لجميع المصريين.
وللحديث بقية.