وكم مرة رأيناه بشوق شديد وكأن محمود عبد العزيز أصبح صديقنا بل وكم مرة أثار دهشتنا برغم تعدد الرؤية؟ وهل نسى احدنا فيلم (الصعود الى الهاوية) ونهايته حين تعرف الجاسوسة عبلة كامل فى الطائرة انها ذاهبة للقاهرة، وقبل ان تعارض يخبرها من معها بأن (هى دى مصر ياعبلة) بأداء مديحة كامل ومحمود ياسين، ،وهل ننسى مسلسل (دموع فى عيون وقحة) وبطله جمعة الشوان بأداء عادل امام ورحلته فى أوروبا كعميل للمخابرات الاسرائيلية بالاتفاق مع المخابرات المصرية، هذه الأعمال الثلاثة التى لا ننساها أضافت للدراما المصرية الكثير من خلال كاتبها الكبير صالح مرسى الذى استطاع ان يؤسس هذا النوع المهم من الدراما، أى دراما الجاسوسية.إنها رحلة مثيرة وكبيرة لهذا الكاتب الكبير استطاع اخيرا الناقد القدير (سامى حلمي) ان يقدمها كاملة فى كتاب يحفظ تاريخ الكاتب وتاريخ ريادته لدراما التجسس بعنوان (صالح مرسي، ورحلة مع التمرد) ليعيدنا الى تذكر اعمال مهمة على الشاشات الكبيرة والصغيرة من إبداعات صالح مرسي، ووفقا لتاريخ رؤيتنا لها تنساب الذكريات معنا وفقا لتاريخ عرضها فحين رأينا فيلم (الصعود للهاوية)بإخراج الكبير كمال الشيخ عام 1978 أثار فينا أسئلة كثيرة حول مجالات التجسس، وطرقه، فالفيلم عن طالبة جامعية مصرية ذهبت الى باريس لتكمل دراستها ووقعت فى حبائل الموساد وهو ما احتاج لخطة عمل من المخابرات المصرية لافساد خطط الموساد، واستعادتها الى مصر، وبعد عامين فقط (1980) رأينا مسلسل (دموع فى عيون وقحة) بأخراج القدير يحيى العلمى ليقدم لنا صورة اخرى لمواطن مصرى يعمل فى ميناء السويس ويتلقى عرضا مغريا ومثيراً للشكوك فيسرع لإبلاغ اجهزة الامن التى تطلب منه قبول العرض ومن خلاله يملى على مخابرات العدو معلومات المخابرات المصرية، ولمدة سنوات استمر جمعة الشوان يؤدى دوره فى مصر وخارجها فى دول أوروبية عديدة ذهب اليها كعميل وكشف خلالها عن الكثير لاجهزة الامن المصرية ومع هذه الرحلة كانت رحلته العائلية الصعبة مع والدته وشقيقه وزوجته الكفيفة. (قام بادوارهم عزيزة حلمى ومحمود الجندى ومعالى زايد) فى دور من اروع أدوار عادل امام، أما (رأفت الهجان) الذى قدم قصة بطل مصرى كبير هو (رفعت على سليمان الجمال) الذى زرع داخل المجتمع الاسرائيلى لنقل ما يحدث للمخابرات المصرية فى سنوات الاعداد لحرب اكتوبر، فقد استطاع صالح مرسى ان يقدم خلاله صورة شديدة التميز لمسيرة البطل فى رحلته الصعبة وأسلوب تحوله ليصبح (ديڤيد سمحون) اليهودى الذى يمتلك وكالة للسياحة، وهو مانعرفه من خلال الجزء الاول الذى يبدأ بموته فى ألمانيا واكتشاف زوجته مالا تعرفه عنه لتبدأ الحكاية بالترتيب الزمنى ونكتشف شخصية ذكية وقادرة على التلون لاجل الحياة الصعبة التى عاشها صغيرا بعد رحيل والدته ووالده، وسوء معاملة اشقائه، وايضا زوج شقيقته الوحيدة شريفة، وهنا تعبر القصة والسيناريو عن ملامح زمن مختلف فى الأربعينات و الخمسينات كان للإنجليز فيه دور مهم قبل الجلاء عن مصر، وكذلك الوجود اليهودى بين السكان، والحراك الاجتماعى العام، وفى الجزءين الثانى والثالث تستمر الاحداث بالتركيز على الشاب رفعت (محمود عبد العزيز) بعد اختيار الضابط محسن ممتاز له (بأداء يوسف شعبان) لاعداده للمهمة الصعبة، الذهاب لاسرائيل، والاندماج فى مجتمعها، ،وهناك أعمال اخرى قدمها صالح مرسى ضمن دراما الجاسوسية مثل مسلسلات (الحفار )، و(سامية فهمي) و(حرب الجواسيس)، ومسلسلات اجتماعية مثل (صيام صيام ) للمخرج الكبير محمد فاضل، وغيرها فى رحلة ابداع وعمل لم تهدأ منذ عام 1956 وصدور اول مجموعة قصصية له عن البحر باسم (الخوف) ليصل عدد مؤلفاته الأدبية والسينمائية والتليفزيونية والإذاعية الى ما يقرب من أربعين بينها ثلاث سهرات تليفزيونية وأربعة مسلسلات إذاعية، وبينها ايضا كتابان عن قصة حياة ليلى مراد، وقصة حياة تحية كاريوكا ورواية كانت الاولى بالنسبة له وحققت نجاحا ساحقا وهى (زقاق السيد البلطي) التى صدرت منها سبع طبعات كانت الاولى عام 1963.
البحث عن الحوار الضائع
كانت محبة القراءة هى دافع بطلنا للتمرد فى مدينته الاولي، كفر الزيات، كما يذكر الكاتب سامى حلمى فى مقدمة الكتاب الذى بدأ بقصة غريبة هى حوار أجراه مع صالح مرسي، واختفي، ووجده بعد عشرين عاما تعب فيها من البحث عنه ، وحين وجده واستطاع الحصول على جهاز لسماع الشريط سأل نفسه :هل انشر الحوار فقط، ،ام اطلب دعم الاسرة (يقصد اسرة صالح مرسى فقد كان قد رحل وبالتالى فإن زوجته المخرجة وجيهة فاضل ستكون عونا للمؤلف فى كتابه بعد ان سألها هل صدر كتاب عن رحلة صالح مرسي، فنفت هذا، وهنا قرر ان يقدم الكتاب الذى لم ينشر عن صديقه الكبير المبدع بعد اكتشافه الكم الكبير من إنتاجاته المكتوبة منذ منتصف الخمسينات وحتى ما بعد منتصف التسعينات ليؤكد لقراء الكتاب أن (ما قدمه لم يصل اليه أحد من مبدعى جيله، أو بعده)، وليقدم على استدعاء رحلة مرسى منذ مولده فى كفر الزيات بمحافظة الغربية فى (17-2-1929)، ورحلته شبه اليومية منها إلى مدينة طنطا للدراسة فى مدارسها، واكتشافه نفسه وسط معالم طنطا، ووجود مكتبة البلدية بها،وباعة كتب بأسعار زهيدة، ودور عرض سينمائي، ليتحول الى عاشق لعروس الدلتا، خاصة بعد احتفالها بمولد السيد البدوى وموسم الابتهالات الكبير أثنائه، وايضاً اكتشافه لسيرك (اخوان عاكف)،علمته عروس الدلتا الكثير واضافت اليه محبة الفن مع القراءة فقرر ان يخطط لمستقبله بنفسه هروبا من ضغوط ابيه وتسلطه وقرر الذهاب لمدرسة الصنايع المتوسطة وترك الدراسة الثانوية العامة والجامعية، وبعدها رحل الى الإسكندرية، والتحق بالقوات البحرية وعمره 18 عاما ليصبح مساعد مهندس بحري، وعرف البحر وجماله وهدوءه وهياجه، واصبح الكتاب رفيقه الدائم، وسكن فى حى كليوباترا، وذهب من خلال وظيفته الى دول كثيرة فى البحر المتوسط من خلال باخرته التى يعمل عليها، وفى كل مدينة كان يذهب للتعرف على الناس والمكان والسينمات والمتاحف، وبين هذا وذاك كان قد تعرف على اصدقاء مهمين بينهم تحسين مصباح استاذ الفلسفة وعلم النفس الذى ارتبط به فكريا هو واثنان غيره كانوا يجتمعون فى مكتبة بمحطة الرمل بالإسكندرية، وهناك قرأ رواية (بداية ونهاية) لنجيب محفوظ، فبدأ يفكر فى الكتابة.
رائد أدب البحر، أم الجاسوسية
(إذا كان نجيب محفوظ هو الرائد الذى اهتديت بخطاه،فقد كان يوسف إدريس هو القنبلة التى فجرت حولى كل ما أفكر فيه )كلمات له وهو يحكى عن بدايته وكيف كان اختلافه فى الرأى مع يوسف ادريس حول قصته (أرخص ليالي) سببا فى صدام كبير بينهما وكلمات أصابته من ادريس الذى طالبه بان يمتثل لقدرته على الكتابة بعدما قرأ قصة له بعنوان (زقاق السيد البلطي) وطالبه بأن يعيد كتابتها فى رواية، ثم ألح عليه ليأتى الى القاهرة العاصمة ويلتقى بأدبائها ومفكريها، فاستقال من القوات البحرية وذهب للقاهرة بالفعل ليعمل صحفيا فى مجلة (الهدف) مع أحمد حمروش ويتعرف على يحيى حقي، ويواظب على (ندوة الجمعة) لنجيب محفوظ، ثم ينتقل للعمل فى مجلة الرسالة الجديدة برئاسة يوسف السباعي، ولمدة عشر سنوات يعيش فرحة اللقاء مع المشاهير ممن يكتبون فى المجلة وبعد توقفها يعمل فى سكرتارية المؤتمر الآسيوى الأفريقي،وبعدها يعين فى مؤسسة روزاليوسف محررا فى مجلة صباح الخير مسئولا عن قسم الفن مع الرسام الساخر بهجت عثمان، وتصدر اول مجموعة قصصية له (الخوف) بدعم من احسان عبد القدوس بعد اهتمام النقاد بقصصه، ويذهب إلى الأهرام بعدها بطلب من أحمد بهاء الدين ويكتب فيها مذكرات تحية كاريوكا، مع حفاوة وتقدير من الوسط الثقافى لكل ما كان يكتبه كصحفيّ وكاتب وقاصً، وأطلق بعضهم عليه لقب (رائد أدب البحر)، وبعد سنوات أطلق عليه ايضا (رائد ادب الجاسوسية)، وذلك بعدما اختير من قبل كمال حسن على لتقديم قصص حقيقية من جهاز المخابرات المصرية كان مهما ان تقدم وقتها لتحسين صورة الجهاز وبينها قصة الجاسوسة عبلة كامل. التى كتبها لتقدم فى فيلم (الصعود للهاوية)، وغيرها، وهو ما جعل قصتة ككاتب رائد للرواية ولدراما الـجاسوسية تلفت أنظار الباحثين فيقدم عنها وعنه مجموعة من الأبحاث لباحثين وباحثات فى الجامعات المصرية فيها تحليلات لقدراته ومنهجه وبنائه للحكاية وفنه القصصى وايضاً اهمية كتاباته فى التعرف على اهمية دور المخابرات المصرية فى تتبع الاعداء، ،رحلة طويلة ممتعة ومهمة قطعها الناقد سامى حلمى ليقدم لنا هذا الاسم الكبير الخالد فى تراثنا الثقافي، وكيف كانت رحلته ليصبح رائدا فى نوع درامى لم يلحقه فيه أحد حتى اليوم، ،رحل صالح مرسى ولكنه مازال باقيا بكل ما قدمه لنا من تراث فنى وثقافى كبير.