«ليس كل داعية فقيهًا؛ فلكل منهما مقومات ومواصفات. من أفتي وليس بأهل للفتوي فهو آثم عاصٍ، وهؤلاء بمنزلة من يدلّ الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هو أسوأ حالًا منهم.
الإمام أبو حنيفة رغم ذهابه إلي عدم الحجر علي السفيه احترامًا لآدميته، يقول بوجوب الحجر علي المفتي الماجن المتلاعب بأحكام الشرع، لما وراء تلاعبه من ضرر عام علي الجماعة المسلمة، لا يقاوم حقه الفردي في حرية التصرف. وأقول: فكيف لو رأي ربيعة وغيره ما رأينا ممن يفتون دون علم في زماننا نحن؟ وكيف أصبح يفتي في قضايا الدين الكبري من لا علم له بالأصول ولا بالفروع، ولم يتصل بالقرآن والسنة اتصال الدارس المتعمق، بل اتصال الخاطف المتعجل؟ بل كيف أصبح بعض الهواة يفتون في أمور خطيرة بمنتهي السهولة والسذاجة، مثل قولهم بتكفير الأفراد والمجتمعات، وتحريمهم علي أتباعهم حضور الجمع والجماعات. وكثير من هؤلاء ليسوا من «أهل الذكر» في علوم الشريعة، ولا كلف نفسه أن يجلس إلي أهل الذكر ويأخذ عنهم، ويتخرج علي أيديهم، إنما كَوَّن ثقافته من قراءات سريعة في كتب المعاصرين، أما المصادر الأصلية فبينه وبين قراءتها مائة حجاب وحجاب، ولو قرأها ما فهمها، لأنه لا يملك المفاتيح لفهمها وهضمها. فكل علم له لغة ومصطلحات لا يفهمها إلا أهله العارفون به المتخصصون فيه، فكما لا يستطيع المهندس أو الطبيب أن يقرأ كتب القانون وحده دون مرشد ومعلم، ولا يستطيع القانوني أن يقرأ كتب الهندسة وحده، كذلك لا يستطيع أحد هؤلاء أن يدرس كتب الشريعة وحده دون موجه يأخذ بيده. إن المفتي أو الفقيه الذي يقوم مقام النبي صلي الله عليه وسلم بل يُوَقِّع عن الله جل شأنه، جدير بأن يكون علي قدر كبير من العلم بالإسلام، والإحاطة بأدلة الأحكام، والدراية بعلوم العربية، مع البصيرة والمعرفة بالحياة وبالناس أيضًا، بالإضافة إلي مَلَكة الفقه والاستنباط.
لا يجوز أن يفتي الناس في دينهم من ليس له صلة وثيقة وخبرة عميقة بمصدريه الأساسيين: الكتاب والسنة، ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم تكن له مَلَكة في فهم لغة العرب وتذوقها، ومعرفة علومها وآدابها حتي يَقْدِر علي فهم القرآن والحديث. ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم يتمرس بأقوال الفقهاء، ليعرف منها مدارك الأحكام، وطرائق الاستنباط، ويعرف منها كذلك مواضع الإجماع ومواقع الخلاف. ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم يتمرس بعلم أصول الفقه، ومعرفة القياس والعلة، ومتي يستعمل القياس.
كما لا يجوز له أن يُفتي ما لم يكن عالمًا بمقاصد الشريعة، وعلل الأحكام، فمَن عاش مع ظواهر النصوص وحرفيتها، ولم يكن له التفات إلي أسرارها ومقاصدها: لم يُحسن الفتوي في دين الله. ولم يكتفِ الإمام الشاطبي بأن جعل العلم بمقاصد الشريعة شرطًا للاجتهاد، بل جعله سببًا للاجتهاد. كما لا يجوز أن يفتي مَن لم يعايش الفقهاء في كتبهم وأقوالهم، ويطلع علي اختلافهم، وتعدد مداركهم، وتنوع مشاربهم، ولهذا قالوا: مَن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه! ولا يجوز أن يفتي الناس من يعيش في صومعة حسية أو معنوية، لا يَعِي واقع الناس، ولا يُحِس بمشكلاتهم. رأينا من يفتي ويتحدث في أمور الدين وهو لا يملك الزاد والذخيرة التي تعينه علي فك الألغاز الفقهية. الإمام مالك وهو إمام أهل الهجرة كان يتحرج من الإفتاء وقد قيل: «لا يُفتي ومالك في المدينة». والمؤسف أن نري علماء نحترمهم ونقدرهم إلا أنهم يخوضون في مسائل الإفتاء ويتجرأون علي الفُتْيَا دون مقومات.مما أحدث بلبلة وتخبطًا وكثيرًا من المشاكل.
لابد من تفعيل قانون الفتوي لوضع النقاط فوق الحروف ووأْد الكثير من الفتن. هذا ما ننتظره؟