الحرب ليست فقط ما يُرى فى ميادين القتال، بل ما يُخفى خلفها من خرائط تُرسم وصمتٍ يُستغل، فبينما تتركّز عدسات العالم على الدمار الكارثى فى غزة منذ 7 أكتوبر 2023، عاشت الضفة الغربية تحوّلاً بنيوياً أعمق من تسارع غير مسبوق فى الاستيطان، وتوسيعٌ لسلطات المدنيين المقرّبين من المستوطنين على حساب الإدارة العسكرية، وشرعنة لبؤرٍ عشوائية، واندفاع سياسى علنى نحو دفن فكرة الدولة الفلسطينية. هذا التحوّل لم يأت من فراغ، بل من رؤيةٍ أيديولوجية طالما بشّر بها أقطاب اليمين القومى الدينى فى إسرائيل، مفادها أن مشروع ما يسمى «إسرائيل الكبرى» يبدأ من إحكام السيطرة على الضفة الغربية وقطع الطريق أمام أى تواصلٍ جغرافى فلسطينى.
شهد عام 2024 وما بعده نقل سلطاتٍ محورية من الإدارة المدنية التابعة لجيش الاحتلال إلى مدنيين مقرّبين من وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، بما فى ذلك الصلاحيات المتعلقة بالتخطيط والبناء فى المستوطنات وسجلّ الأراضى وبعض صلاحيات المجالس الإقليمية. منظمات إسرائيلية ويسارية ودولية حذّرت من أن ذلك يعنى «ضمّاً فعلياً» بلا إعلان، لأنه يحوّل إدارة شئون منطقة محتلة إلى جهازٍ مدنىّ ملزمٍ قانوناً بخدمة مواطنى دولة الاحتلال، لا سكّان الإقليم المحتل.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففى مارس 2025، مضت الحكومة الإسرائيلية قُدُماً فى توسيع الخريطة الاستيطانية عبر الاعتراف بتجمّعات كمستوطنات مستقلة، قبل أن تُقرّ فى مايو 2025 إقامة 22 مستوطنة جديدة دفعةً واحدة، أغلبها عبر تسوية بؤرٍ قائمة، فى سابقةٍ تعطى الاستيطان دفعةً قانونية وسياسية متزامنة.
التحوّل الأبرز تجسّد خلال أغسطس الحالي، مع عودة مخطط البناء فى منطقة «إى-1» بين معاليه أدوميم والقدس الشرقية إلى الواجهة، بعد سنواتٍ من التجميد تحت ضغطٍ أمريكى ودولي. سموتريتش أعلن بوضوح أن الهدف هو «دفن فكرة الدولة الفلسطينية»، عبر مشروعٍ يقضى عملياً على تواصل الضفة ويعزل القدس الشرقية عن محيطها الفلسطيني. ونبّهت جهاتٌ أممية وأوروبية ومنظمات حقوقية إلى عدم شرعية هذه الخطوة وإلى أنها ستقسّم الضفة فعلياً إلى كانتونات منفصلة.
تؤكد أرقام الرصد أن هذه ليست خطوةً معزولة، فبحسب مركز المعلومات الإسرائيلى لحقوق الإنسان فى الأراضى المحتلة «بيتسيلم» ومنظمة «السلام الآن» ووكالات أممية، شهد عام 2024 ثم مطلع 2025 موجة تسريعٍ فى المصادقات على وحداتٍ استيطانية، فقد روج المجلس الأعلى للتخطيط خلال الربع الأول من 2025 أكثر مما روّج طوال 2024، فيما وثّقت بعثة الاتحاد الأوروبى قفزةً تراكمية نحو 29 ألف خطة ومناقصة متقدمة فى 2024 «19 ألف فى القدس الشرقية و10 آلاف فى الضفة»، بعد أرقامٍ قياسية فى 2023.
إلى جانب ذلك، مضت الحكومة فى «تسوية» البؤر العشوائية وابتكار مسارات «ملتوية» لتخصيص الميزانيات لها حتى قبل استكمال مسار التقنين المعتاد، بما يشمل عشرات «المزارع الاستيطانية» التى تُستخدم للاستيلاء المتدرّج على الأراضى ومنع التطوير الفلسطينى.
على الأرض، واصل عنف المستوطنين ضدّ الفلسطينيين التصاعد بشكلٍ ملحوظ منذ أواخر 2023. ووثقت تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية «أوتشا» تهجير عائلاتٍ وقُرى بأكملها تحت وطأة اعتداءاتٍ متكرّرة وترويعٍ مسلح من المستوطنين، من تخريب مصادر المياه إلى حرق الممتلكات وإتلاف المحاصيل والاعتداء على المدارس.
ففى يوليو 2025 وحده، أفادت «أوتشا» بتهجير 23أسرة تضم 128 شخصاً من برية كيسان بسبب تفاقم عنف المستوطنين وتخريب المساكن والمرافق بعد رحيل أصحابها. كما رصدت 44 حادثة عنفٍ ضد مدارس بين 2023 ومايو 2025.
هذا التفاقم لم يأتِ من فراغ، فسياسات وزير الأمن القومى إيتمار بن غفير سهّلت الحصول على تراخيص السلاح خمس مرات، ووسّعت تسليح «الفرق الأمنية» والمتطوعين، مع تسريع إجراءات الترخيص وتخفيف الفحوصات، ما انعكس زيادةً فى أعداد المدنيين المسلحين داخل المستوطنات. تقديرات تحدثت عن إصدار 100 ألف رخصة جديدة بحلول مارس2024، مع تضاعف التدريب فى ميادين الرماية داخل المستوطنات. هذه البيئة المُسلّحة، مع خطابٍ سياسى تصعيدي، غذّت موجة العنف على الأرض.
وعلى المستوى الخطابي، تَعود إلى الأذهان تصريحات سموتريتش فى 2023 الداعية إلى «محو» بلدة حوّارة، والتى أدانتها واشنطن باعتبارها «تحريضاً على العنف». هذه اللغة، الصادرة من وزيرٍ مسئول عن ملفاتٍ مدنية فى الضفة، تُقارب أوهام «إسرائيل الكبري» من بوابة نزع الشرعية عن أى وجودٍ وحقوق سياسية فلسطينية.
بالتوازى مع عنف المستوطنين، كثّفت القوات الإسرائيلية عملياتها داخل مدن الضفة ومخيّماتها، خصوصاً جنين وطولكرم «نور شمس» ونابلس. تقارير «أوتشا» وصور الأقمار الصناعية توضح أن 43 ٪ من مساحة مخيم جنين و35 ٪ من البنية فيه قد دُمّرت أو تضرّرت حتى مايوالماضى، كما أُصدرت أوامر هدمٍ جماعية لـ 162 منشأة فى مخيم جنين و241 فى طولكرم ونور شمس بين يناير وأبريل 2025، وخلال حملات يونيو 2025 وحدها، هُدمت نحو 100 منشأة، معظمها منازل، فى طولكرم ونور شمس. هذه العمليات أفضت إلى حالات نزوحٍ قسرى وتعميق عزل المخيمات عبر السواتر الترابية وإغلاقات الطرق وعملياتٍ متكرّرة لـ»عزل المناطق»، وهو ما يترجم عملياً إلى «فصلٍ» جغرافى وأمنى للمخيّمات عن محيطها.
هذه المعطيات الميدانية تتقاطع مع منحى عام فى السياسات التنفيذية؛ فبحسب تقارير صحفية عبرية، ارتفعت أوامر الهدم أو الإخلاء التى تصدرها سلطات الاحتلال ضد المبانى الفلسطينية فى الضفة الغربية والقدس فى 2024 مقارنةً بعام 2023، مع أرقام وصلت إلى مئات القضايا وآلاف المنشآت المهدّمة. لذا أصبحت المعادلة على الأرض واضحة، بناءٌ استيطانى يتسارع، مقابل هدمٍ وقيودٍ متزايدة على البناء الفلسطينى داخل مناطق «ج»، بما يعمّق خريطة السيطرة ويُفرغ المساحات الحيوية من أصحابها.
ورصد الاتحاد الأوروبى نحو 29 ألف خطة ومناقصة متقدمة فى 2024، فى انخفاضٍ طفيف عن 2023 القياسي، لكنه ما يزال قفزةً بنسبة 250 ٪ عن 2018، مع نواتج مُقسَّمة بين القدس الشرقية والضفة.
ومنذ أكتوبر2023 تم تهجير أكثر من ألفى فلسطينى فى الضفة، كثيرٌ منهم بسبب عنف المستوطنين وقيود الوصول إلى مناطق مختلفة بسبب كثرة الحواجز الأمنية؛ كما أبلغت «أونروا» عن 939 شهيدا فلسطينياً فى الضفة «حتى 27 مايو 2025»، بينهم 198 طفلاً.
يتقدّم مشروع «تفكيك الضفة» عملياً عبر ثلاثة مسارات متوازية أولها مسار التخطيط القانونى من خلال اعادة تفعيل بعض المشاريع، والثانى مسار مؤسسى إدارى بنقل الصلاحيات الى جهاز مدنى منحاز بطبيعته للمستوطنين، وآخرها المسار المدنى من خلال تكثيف الاقتحامات والعمليات داخل المخيمات والمدن مع سياسة هدمٍ موسّعة وإغلاقٍ متكررٍ للطرق.
النتيجة العملية لهذا «الثالوث» هى تقسيمٌ فعلى للضفة إلى جزرٍ منفصلة: شمالٌ مُثقل بالاقتحامات «جنين/طولكرم/نابلس»، ووسطٌ تُخنقه مشاريع الربط الاستيطانى بالقدس «إى-1»، وجنوبٌ يتعرّض لنزيفٍ ديموغرافى بسبب عنف المستوطنين وإغلاقات الطرق «الخليل/بيت لحم/برية كيسان». هذه الجغرافيا المكسورة تصنع واقع «لا – دولة» بحكم الأمر الواقع، وهو بيت القصيد فى سردية «إسرائيل الكبرى».
لا تخفى الحكومة الحالية، وخاصة سموتريتش وبن غفير، مقاصدها. فالأول لا يمانع التصريح بعدم وجود «شعب فلسطيني»، والثانى يدفع العجلة لتسليح مجتمع المستوطنين وتوسيع صلاحيات «حرسٍ وفرقٍ أمنية». وفى كل مرةٍ يعتلى فيها خطاب «المحو» و»الدفن» مفردات المسئولين، ينعكس ذلك مباشرةً على القرار التخطيطى والإنفاذ الميداني. هذه ليست «زلات لسان»، بل سياسة دولةٍ تُترجم إلى خرائط ومساطر ومجارف وجرافات.. وما يجرى فى الضفة الغربية ليس سلسلة قراراتٍ تقنية، بل مسار مستمر ومعقّد يتغذّى من خطابٍ إقصائى وتسليحٍ مدنيّ وتسوياتٍ قانونية وقرارات تخطيطية متسارعة. «إسرائيل الكبري» ليست شعاراً رومانسياً فى أدبيات اليمين، بل تُبنى حجرًا فوق حجر، ومستوطنةً بعد مستوطنة، وبؤرةً بعد بؤرة، وحاجزاً بعد حاجز. ولأن غزة تملأ الشاشات، تُترك الضفة للمسطرة والبلدوزر، وتغيب عن اللافتات الكبري، لكنها تحضر فى التفاصيل اليومية التى يُصاغ منها المستقبل: مستقبل بلا تواصلٍ جغرافى وبلا سيادةٍ ممكنة، ما لم يغيّر المجتمع الدولى أدواته من لغة التنديد إلى لغة الكلفة والردع.