أخطر ما يسيء إلى الدولة – أى دولة – هو تصريحات بعض المسئولين غير المدروسة والتى تتسبب فى حالة من الجدل تنتهى معظمها فى غير صالح الدولة، الوزير أو المسئول الذى يخرج على الرأى العام ويتحدث فى قضية رأى عام دون معرفة وإلمام كاملين بحالة المزاج العام تجاه تلك القضية يتسبب دون ان يدرى فى صناعة أزمة جديدة تكون الدولة طرفا فيها دون ذنب اقترفته إلا تصريحات غير مدروسة من مسئول غالبا حسن النية، هنا أصل إلى بيت القصيد وهو العلاقة بين الدولة الرسمية والمجتمع.
ومن يفكر بعمق وبحرية تامة فى قضايا المجتمع؟ ومن يقود المجتمع للإيمان بفكرة ما أو مجابهة خطر ما؟ الحكومة تنفذ سياسات وخططاً وإستراتيجيات يمكن قياس نتائجها على مستويات التضخم ومعدلات النمو المختلفة، والإعلام فى مجمله ينقل ويحلل الأحداث والأخبار فقط فهو لا يصنعها ولا يشارك فى صناعتها، أما المفكرون والمثقفون فمتهمون بمتابعة التغيرات والمتغيرات الجارية والتعليق عليها بمزيد من المحسنات البديعية والعبارات الإنشائية، بالتأكيد هناك مؤسسات فى الدولة تهتم بجميع الظواهر المجتمعية وتأثيراتها على الدولة، لكن السؤال المفصلى من هو المسئول عن إدارة التغيير فى المجتمع؟ هل يمكن أن تكون الإجابة جهة ما أو شخصاً ما؟ إذا كانت الإجابة كذلك فنحن فى محنة ثقافية، لقد دارت برأسي، وما زالت اسئلة وتساؤلات كثيرة ولم أجد لها إجابات على أى صعيد من الأصعدة.. وهنا يجب التنويه إلى أن إدارة المجتمع تختلف عن إدارة الدولة، فالأولى يغلب عليها الطابع الأخلاقى والقيمى والمبادئى بينما يتحكم فى الثانية حزمة من القوانين والنظم والإجراءات.. وفى تقديرى أن «إدارة الدولة» جزء من «إدارة المجتمع»، فالدولة ودستورها وقوانينها ولوائحها ونظمها تعكس وتترجم -أو هكذا يجب- أخلاق وقيم ومبادئ المجتمع، فالدولة مرآة المجتمع، تأتمر بأوامره وتنتهى بنواهيه، والدولة قوتها تنبع من قوة المجتمع، وتحضُّرها من تحضُّره، فمن الطبيعى أن قوة المجتمع وطاقته تسرى بنفس القوة فى جسد الدولة، لكن فى أحيان كثيرة نجد تبايناً بين المجتمع والدولة، فهناك مجتمع أضعف من الدولة الرسمية وتبدو عليه علامات الهشاشة الشديدة هنا تقوم الدولة بإدارة أزمات المجتمع المترهل مع وضع آليات لتقاسم الفقر بين أفراده، وهناك مجتمعات أقوى من الدولة وهذه المجتمعات لديها فائض موارد وإمكانات بشرية وثقافات هائلة ومتنوعة وهنا يكون دور الدولة إدارة هذه الفوائض وتقاسم الثروة وهناك دول ومجتمعات لم تجد المرآة العاكسة لفهم هذه العلاقة من الأساس، وهناك دولة ومجتمع فى حالة تناغم حقيقى وتام وحيوية تسرى بانتظام فتغذى الدولة الرسمية المجتمع بإدارة رشيدة وترتد نتائجها من الأخيرة إلى المجتمع بالخير والنماء، إذن فالصورة المثالية أو النموذجية هى التناغم والتساوى بين قوة المجتمع وقوة الدولة. والسؤال الآن وفى ضوء ما سبق: ماذا عن مصر؟ ما هى أطر العلاقة بين الدولة الرسمية والمجتمع؟ أيهما أقوي.. الدولة أم المجتمع؟ فكلاهما انعكاس للآخر قوة وضعفاً؟ أنا شخصياً لا أعرف الإجابة، ولذلك أدعو النخب الثقافية والفكرية وقادة التغيير لدراسة هذه النقاط، ثم اجراء حالة حوار ونقاش جاد وواسع حول هذه الملفات المركونة والمؤجلة ولا نعرف لماذا ! فقط نتابع «الأزمات» وكيف كانت إدارة الدولة الرسمية لها؟ وكيف كانت إدارة المجتمع لنفس الأزمات؟ فالدولة تدير الأزمة – أى أزمة – وفق قواعد القانون والمصالح العليا ومحددات الأمن القومى وبشكل دقيق، والملاحظ أن الدولة الرسمية لم تقع قط فيما يسمى بـ «فخ التصريحات»، وجدنا انضباطاً مشهوداً فى تصريحات الدولة الرسمية حتى فى أصعب الفترات وأدق الأزمات، وعلى ســـبيل المثـــال لم نجد تصــريحاً واحداً – أكرر واحداً – من الرئيس السيسى يهاجم فيه دولة من الدول مهما كانت حدة الخلاف أو التباين، فرجل الدولة يتحرك وفقاً لحزمة محددات ترتبط بمصالح عليا وليست مصالح ضيقة، أما المجتمع فحين يدير نفس الأزمة يديرها دون ضابط أو توجيه ودون وجود «كتالوج» يعكس أطراً عامة يمكن قراءتها بسهولة، ومعظم أزماتنا التى تباينت فيها وبوضوح إدارة الدولة وإدارة المجتمع للأزمات كانت بسبب عدم وجود «صنايعية» يقودون المجتمع ويصنعون التناغم المطلوب، لكن كثرة وتعدد الاجتهادات المبتسرة وظهور المبادرات التى يغلب عليها الطابع الكوميدى أحياناً، فتصبح الكارثة كوارث والأزمة أزمات، لكن أخطر ما يمكن ملاحظته فى هذا الصدد هو «الإنكار التام» لما هو موجود من ظواهر مجتمعية تحدثت عنها فى مقال الأمس، هذا الإنكار يأتى تحت مظلة الخوف من المواجهة، ونضع رؤسنا فى الرمال ونختبئ خلف أصابعنا.