لأنه عالم وليس متعالماً أو مدع علم، فهو متواضع.. ولأنه متواضع، فهو أكثر عطاء وفائدة للآخرين.. وهو صاحب رسالة إنسانية يسعى بكل طاقته على تحقيقها.. هذه الحقيقة تنطبق على كل عالم حقيقي.. أو هذا ما توصلت إليه خلال ممارسة عملية لمهنة الصحافة تزيد على ربع قرن.
البروفيسور السير البريطانى العالم الرائد فى أحد أصعب التخصصات الطبية مجدى يعقوب مثال حى على ذلك. طلبت مقابلة الدكتور يعقوب قبل سنوات فى دولة خليجية.. وكان برنامجه مزدحماً بصورة لا تصدق.. بحيث كان تخصيص وقت لإجراء مقابلة صحفية شديد الصعوبة وربما مستحيلاً.. وعندما علم برغبتى فى مقابلته وافق على الفور على أن يتم اللقاء أثناء تناوله طعام الغداء فى الفندق المقيم فيه، لأنه لا يوجد وقت آخر، وأصر مرافقه من وزارة الصحة على أن ألتزم أمامه بألا تزيد المقابلة على عدة دقائق لا تزيد على عدد أصابع اليدين.. «فالسير مشغول».. ويحتاج إلى إنهاء طعامه بسرعة والحصول على قسط بسيط من الراحة قبل أن يواصل برنامجه اليومي، ووافقت مضطراً.. وعلى مائدة الطعام بدأ الحوار.. وخلاله لم تمتد يده إلى الطعام.. ومرت الدقائق العشر.. وبدأ المرافق يشير إلى ساعته لتذكيرى بأن المدة المتفق عليها انتهت.. ولمحه البروفيسور العالمى صاحب الألقاب العلمية الاجتماعية التى ربما لا يتمتع بها الكثيرون، فأكد أن المقابلة سوف تستمر حتى أتوقف أنا عن طرح الأسئلة.. واستمرت المقابلة قرابة الساعة والنصف الساعة.. وكان يمكن أن تستمر أكثر وأكثر، لولا اننى أشفقت عليه من الإجهاد، وبعد أن لاحظت أن الطعام أصبح بارداً ولا يصلح للتناول.
أذكر اننى اتصلت بطبيب يعمل فى مستشفى خاص لاستطلاع رأيه فى أحد الموضوعات التى تهم القراء.. فقال إنه متعب بسبب الصيام، واقترح الإجابة على تساؤلاتى بعد الإفطار.. وبعد الإفطار أكد أنه يريد الحصول على قسط من الراحة لأنه يشعر بالنعاس عقب وجبة إفطار دسمة.. ومرة ثالثة أكد أنه فى طريقه إلى عيادته.. وبعد انتهاء دوامة العمل المسائى أكد أنه مجهد وان الوقت متأخر.. وفى اليوم التالى اتصل هو بى وعندما أخبرته بإننى لم أعد فى حاجة إلى رأيه، أعرب عن دهشته من رد فعلي.. فهو يعتقد أن علمه الغزير يستحق أن نلهث وراءه وأن يتمنع ويتدلل، وليس علينا سوى تحمله فى صبر حتى لا نحرم من آرائه ورضائه.. أما مسألة الرسالة السامية للمهنة الإنسانية وواجب خدمة المجتمع وتنويره وتزويده بالمعرفة التى تساعده على الوقاية من المرض، فهى خارج حساباته.
الفارق كبير بين العالم والمتعالم، بين من يمارس الطب بمفهوم الرسالة الإنسانية ومن يمارسه بمنطق الصفقة التجارية وحسابات الربح والخسارة والفوائد المباشرة.. تكرر الموقف الجميل للدكتور مجدى يعقوب مع كثيرين من العلماء المصريين الحقيقيين، أصحاب المدارس العلمية والإنجازات المسجلة فى ذاكرة التاريخ والعطاء الذى يضرب به المثل.. ولا أنسى منهم الدكتور على مؤنس استاد الكبد، والدكتور شوقى كمال أستاذ جراحة التجميل، والدكتور شوقى الحداد استاذ الاشعة والطب النووى رحمهم الله، وغيرهم الكثير ممن لم يقتصر عطاؤهم على إجراء المقابلات وإبداء الآراء وتقديم المعلومات.. بل امتد لعلاج مئات المرضى غير القادرين مجاناً، ضمن الخدمات التى تقدمها جريدتا «الجمهورية» و»المساء» لقرائهما.
أخيراً اتذكر موقفاً مع البروفيسور الفرنسى بيبر دوبيرنار أحد علماء الطب البارزين فى العالم.. فقد حضر لمقابلتى قبل سنوات فى مقر نقابة الصحفيين وكان ذلك فى الوقت القصير المخصص لراحته.. وقبل أن أبدأ فى محاورته أعرب عن شكره للجريدة لأنها اتاحت له فرصة الوصول إلى أكبر عدد من ابناء مصر.. وبدلا من أن اشكره على تلبية الدعوة شكرنى هو عليها.. منتهى التواضع الذى يزين جبين عالم حقيقي.