33 عاماً تمضى على رحيل الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب أحد أكبر مطربى مصر والعالم العربى ومبدعيهم فى العصر الحديث، بل أنه أحد أهرامات مصر الفنية الشامخة، وأحد أركان الموسيقى العربية على مستوى الوطن العربى والشرق الأوسط بأغانيه الخالدة وألحانه التى قدمها لعشرات الفنانين من المحيط الى الخليج ولأجيال متعددة من الفنانين فأطلق عليه عدة ألقاب «موسيقار الأجيال» و«كروان مصر»، فقد عاصر نجوماً كبار، وولد على يديه أصوات عديدة كبرت بألحانه، وكان له حضور ومكانة بين الأمراء والملوك وجميع رؤساء مصر والوطن العربى، فاستقبلوه فى قصورهم أفضل استقبال وجلس بينهم من علو، فتم تكريمه بأعلى الأوسمة والنياشين.. هو صاحب أعمال خالدة فى تاريخ الموسيقى العربية والتى ساهم فى تطورها، بل أنه أحد أعمدتها الاساسية على مستوى الوطن العربى، فمكانة موسيقار الأجيال عند جمهوره والرؤساء والملوك لم تأت من فراغ.. فقد خاض رحلة كفاح طويلة امتدت من القرى والنجوع والمدن النائية حتى القصور الفاخرة والقاعات الكبرى حتى يصبح اسم «محمد عبدالوهاب» علماً للموسيقى الشرقية والعربية وأيضاً العالمية فقد تم اهداؤه لقب « الفنان العالمى « من جمعية المؤلفين والملحنين بباريس عام 1957، وحتى أمس يتواكب ذكرى رحيله الـ 33، فقد توفى فى 4 مايو 1991 بالقاهرة، عن عمر 87 عاماً!!.
«الميلاد بباب الشعرية»
ولد محمد عبدالوهاب فى أوائل القرن الماضى يوم 13 مارس 1904 بحارة برجوان بحى باب الشعرية، وترجع أصول الأسرة الى مدينة «أبو كبير» بمحافظة الشرقية، وكان والده الشيخ محمد أبو عيسى يعمل قارئاً للقرآن الكريم، ومؤذناً للصلاة فى مسجد سيدى الشعرانى الكائن حتى الآن بباب الشعرية، ووالدته فاطمة حجازى، وكان محمد عبدالوهاب هو الأخ لثلاثة أشقاء بينهم أختان وأخ أكبر، ولعمل والده بجامع سيدى الشعرانى كان طبيعياً أن يلتحق الابن بالمسجد لحفظ القرآن الكريم، ومن ثم يلتحق حسب رغبة والده بالأزهر الشريف.
تمكن محمد عبدالوهاب أن يحفظ أجزاء عديدة من المصحف الشريف، وكان يتلو بين الصلوات آيات من القرآن الكريم بصوته الرخيم مما أسعد والده بأن ابنه سيسير على نهجه فى عمله وربما يتفوق أيضاً بصوته الجميل، ولكن عبدالوهاب تعلق بالأصوات الغنائية والمنشدين الذين كانوا يتجمعون فى المناسبات لينشدوا بأصواتهم الموشحات والانشاد والمواويل أمثال سلامة حجازى وصالح عبدالحى كما تعقب تواجدهم فى الأفراح والموالد للاستماع لغنائهم وحفطه، فأهمل عبدالوهاب تعليمه داخل المسجد بعدما تعلق بالغناء والطرب، وهنا واجه حملة اعتراضات شديدة من الاسرة ونال عقاباً شديداً من والده، ولكن رغبة الابن كانت أقوى.
«خمسة قروش فى الليلة»
فى سن العاشرة التقى بالفنان فوزى الجزايرلي– والذى ابشتهر بشخصية المعلم بحبح فى أفلامه السينمائية – واتفق معه أن يغنى بين فصول مسرحياته التى تقدمها فرقته بحى الحسين مقابل خمسة قروش كل ليلة، وقام بتعليق لافتة على باب المسرح كتب عليها بعناوين كبيرة « الطفل الأعجوبة.. الذى يغنى لسلامة حجازى «، وخوفاً من اكتشاف والده هذا الأمر قام عبدالوهاب بتغيير اسمه لمحمد البغدادى، الا أن هذا التخفى لم يدم طويلاً اذ سرعان ما اكتشف والده وأسرته لما يفعله، فنال عقاباً شديداً لخروجه عن رغبة والده وسعيه للغناء مما يسئ لسمعة أسرته بالكامل.
واصلت الأسرة ضغوطها على محمد عبدالوهاب فى أن ينهى علاقته بالغناء ويعود لدراسته الدينية، ولكن الابن تعلق بالغناء والطرب مما دفعه لأن يهرب من البيت، واتفق مع فرقة سيرك كانت ترحل من القاهرة الى دمنهور بأن يغنى فى عروضها وسافر معها، ولكن لم يدم الحال طويلاً اذ طرده صاحب السيرك بعد ايام قليلة لرفضه القيام بأى عمل آخر داخل السيرك سوى الغناء، فعاد الى أسرته والتى عفت عنه بعد تدخل الاصدقاء، كما وافقت الأسرة على تغيير المسار، بل ووافقت أيضاً على أن يغنى مع الفرق الفنية، وتم الاتفاق أن يغنى مع فرقة عبدالرحمن رشدى المحامى على مسرح « برنتانيا « مقابل ثلاثة جنيهات شهرياً، ليصل عبدالوهاب لقمة السعادة، فكان يغنى كل ليلة أغانى الشيخ سلامة حجازى التى يحبها وسط تشجيع وتصفيق الحضور.
«أحمد شوقى»
تصادف أن حضر أمير الشعراء أحمد شوقى أحد عروض الفرقة، واستمع لصوت محمد عبدالوهاب وأعجب به، ولكنه وجده ما زال طفلا – 10 سنوات – فأشفق عليه وخشى أن يجهد صوته ويقضى عليه فى تلك السن المبكرة، فتوجه الى حكمدار القاهرة الانجليزى ليمنع عبدالوهاب من الغناء، الا أن الحكمدار الانجليزى رفض التدخل بحجة عدم وجود قانون ينص على منع الأطفال من ممارسة الغناء، ولم ييأس أحمد شوقى فتوجه على الفور وتحدث مع صاحب الفرقة وتمكن من أن يقنعه بمنع عبدالوهاب من الغناء بل وأخذ تعهدا بذلك.
أظلمت الدنيا أمام أعين محمد عبدالوهاب، فبعدما استطاع أن يتخطى رفض الأسرة وينال رضاهم، ظهر له أحمد شوقى الذى كان وراء توقفه عن الغناء، فكرهه كرهاً شديداً، وبعد سنوات قليلة قرر أن يدرس الموسيقى لتصقل موهبته ويوسع من معرفته الموسيقية، فالتحق بنادى الموسيقى الشرقية «معهد الموسيقى العربية حالياً» ليتعلم أصول غناء الموشحات والعزف على الآلات الموسيقية منها آلة العود والتى تعلمها على يد محمد القصبجى أستاذ الموسيقى الشرقية وآلة العود، كما تعلم منه أيضاً أصول المقامات، ودرس بعض أصول الموسيقى الغربية والتدوين الموسيقى بمعهد « جويدين « الايطالى بالقاهرة، وأثناء دراسته الموسيقية التحق بمدرسة الخازندار للعمل مدرساً للموسيقى والأناشيد.
تنقل عبدالوهاب فى عدة فرق من بينها فرقة الفنان على الكسار الذى ألحقه بفريق الكورال كمنشد، وفى العام التالى عمل مع فرقة نجيب الريحانى التى أخذته فى جولة ببلاد الشام، ولأول مرة يخرج خارج مصر ويلتقى بثقافة مختلفة، وبعدما عاد من رحلته الفنية أصبح شغوفاً من أن يستكمل دراسته الموسيقية، وبعدها التقى بالفنان سيد درويش الذى أعجب بصوته وضمه لفرقته الغنائية مقابل 15 جنيهاً فى الشهر، كما شاركه فى عرضى «شهرزاد» و«البروكة»، وظل مع سيد درويش لا يفارقه يتعلم منه أصول الغناء ويردد ألحانه حتى وفاته!!.
فى عام 1925 استدعته سلطانة الطرب منيرة المهدية وطلبت منه اكمال تلحين روايةً «كليوباترا» والتى لم يكمل تلحينها سيد درويش لوفاته، وحققت تلك الخطوة لعبدالوهاب شهرة واسعة فى الوسط الفنى بأن هناك شابا نابغة يمتلك الموهبة الموسيقية، وبالفعل كانت «كليوباترا» تحولاً كبيرًا فى حياته المهنية، وفى عام 1927 سجل عبدالوهاب أول أسطوانةٍ من ألحانه «فيك عشرة كوتشينة» من كلمات الشيخ يونس القاضى الذى كتب كلمات نشيد مصر الوطنى «بلدى يلادى».
«جوائز وتكريمات»
نال محمد عبدالوهاب طوال مسيرته الفنية العديد من الجوائز والتكريمات من كل رؤساء وملوك الوطن العربى، وفى مقدمتهم الرئيس جمال عبدالناصر الذى أهداه وسام الاستحقاق، والوشاح الأول من الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة، والوسام الاكبر العمانى، وقلادة الكوكبة الأردنية، ووسام الأرز اللبنانى، ووسام الاستحقاق السورى، ووسام الكفاءة المغربى، ووسام الاستقلال الليبى، الى جانب الميدالية الذهبية من مهرجان موسكو، والميدالية الذهبية للرواد الأوائل فى السينما المصرية، والميدالية الذهبية فى عيد الاذاعة المصرية، كما أقيم له تمثال نصفى فى ميدان باب الشعرية حيث ولد ونشأ، كما شيد له تمثال بالحجم الكبير وضع فى ساحة دار الأوبرا، ووضع نسخة اخرى من نفس التمثال فى حديقة معهد الموسيقى العربية.
«شعراء عبدالوهاب»
غنى محمد عبدالوهاب لكثير من الشعراء على مدار مسيرته الفنية التى بدأت منذ عشرينات القرن الماضى فغنى لأمير الشعراء أحمد شوقى وشاعر الشباب أحمد رامى، ومحمد يونس القاضى، وحسين السيد وبشارة الخورى وحسين النحاس، وكامل الشناوى وشقيقه مأمون الشناوى وايليا أبو ماضى، وصالح جودت وأحمد شفيق كامل وعلى محمود طه، ونزار قبانى والاخوة رحبانى وعبدالوهاب محمد، وغيرهم فى قائمة تصل لما يقرب من مائة شاعر.
«لقاء السحاب»
عندما بلغ محمد عبدالوهاب سن الستين عاماً وأثناء حضوره احتفال عيد العلم وتكريمه من قبل الرئيس جمال عبدالناصر صعدت معه كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، وانتهزجمال عبدالناصر وقوفهما أمامه، فقام بمعاتبهما على عدم العمل معاً وتقديم أعمال مشتركة يهتز لها العالم، وتساءل كيف يعيش هرمان فى زمن واحد ولا يتعاونان ويسعدا الملايين، ومن ثم انتهت القطيعة بأوامر من جمال عبدالناصر ووعده محمد عبدالوهاب بتقديم أجمل ألحانه للسيدة ام كلثوم، وبعد شهور قليلة كانت المفاجأة والتى أطلق عليها لقاء السحاب بأغنية « انت عمرى « كلمات أحمد شفيق كامل لتحقق الأغنية نجاحاً كبيراً ساحقاً. وحرص عبدالناصر على حضور أول حفل لتلك الأغنية، وعندما صافحهما طلب منهما المزيد من التعاون المشترك، وبالفعل كانت ثمرة التعاون قد وصلت لعشر أغنيات على مدار تسع سنوات، فبعد انت عمرى قدما معاً على باب مصر – انت الحب – أمل حياتى – فكرونى – هذه ليلتى – أصبح عندى الآن بندقية – ودارت الأيام – أغداً ألقاك، ثم كانت أخر أغنية عام 1973 ليلة حب، قبل رحيلها بعامين، وغنت أم كلثوم لثمانية شعراء فى الحان عبدالوهاب يتقدمهم احمد شفيق كامل الذى كتب لها ثلاث أغان من بينها أول أغنية للعملاقان وأيضاً أخر أغنية فى التعاون المشترك، الى جانب كامل الشناوى وأحمد رامى وعبدالوهاب محمد وجورج قرداق ونزار قبانى ومأمون الشناوى والهادى أدم.
«أفلام عبدالوهاب السبعة»
خاض محمد عبدالوهاب مجال السينما الروائية وهى ما زالت تخطو سنواتها الأولى، وقدم للسينما 7 أفلام غنائية جميعها من بطولته وغنائه وألحانه، وكلها من اخراج المخرج الكبير محمد كريم، وأول تلك الافلام « الوردة البيضاء « عام 1932 والتى لعبت البطولة أمامه سميرة خلوصى.
أما ثانى الأفلام عام 1935 فكان « دموع الحب « مع المطربة نجاة على، وقصة الفيلم مأخوذة عن قصة فرنسية اسمها « ماجدولين « وقام بتعريبها الأديب مصطفى لطفى المنفلوطى، وتضمن الفيلم عشر أغانى، منها ست أغنيات لمحمد عبدالوهاب.
ثالث أفلام عبدالوهاب «يحيا الحب» عام 1938، وهو أول بطولة وظهور للفنانة ليلى مراد فى السينما وأيضاً زوزو ماضى، ولقد حقق عبدالوهاب مكاسب كبيرة من ذلك الفيلم عندما كان يمر على سينما كوزمو ورويال بالقاهرة فى العروض الليلية ليغنى عبدالوهاب فى الاستراحة أغنيتين من الفيلم مع اضافة خمسة قروش على التذكرة مما ساهم فى زيادة الاقبال على المشاهدة بل وحقق أرباحاً تصل الى 400 جنيه فى الحفلة الواحدة!!.
رابع الأفلام «يوم سعيد» عام 1940 مع سميحة سميح، وهو أول ظهور لفاتن حمامة فى السينما، وأخذت أجراً جنيهاً واحداً، ولكن بعد ان أعجب بها المخرج محمد كريم رفع أجرها لعشرة جنيهات، كما قام بتغيير السيناريو وأعطاها دوراً أكبر، ولشدة اعجابه بها طلبها للمشاركة بعد 4 سنوات فى فيلم «رصاصة فى القلب»، ومن الطرائف فى وقت اختيار الطفلة المشاركة طلب منها عبدالوهاب ومحمد كريم أن تنشد نشيداً واحداً فأنشدت عشرة أناشيد!!.
خامس الأفلام «ممنوع الحب» عام 1942 مع المطربة رجاء عبده، وبعد أن حقق وعده معها بعد عشر سنوات بأن تشاركه فى بطولة فيلم غنائى، وجميع أغانى الفيلم كلمات حسين السيد وأشهرها أغانى بلاش تبوسنى فى عينيه، وأغنية يامسافر وحدك، أما أغنية « ردى عليا « فهى الأغنية الوحيدة لمأمون الشناوي!!.
سادس الأفلام «رصاصة فى القلب» مع راقية ابراهيم، ويحتل الفيلم المركز رقم 65 فى قائمة أفضل 100 فيلم فى ذاكرة السينما المصرية.!!
سابع الأفلام «لست ملاكاً» عام 1946 مع ليلى فوزى، وهو آخر أفلامه وبرغم نجاح الفيلم الا أنه لم يحقق الأرباح التى حققتها أفلام عبدالوهاب السابقة لذا قرر أن يتوقف عن التمثيل، وقد حقق الفيلم سابقة فى تاريخ السينما المصرية اذ تم تصوير أغنية « عمرى ما حنسى يوم الاثنين « بالألوان الطبيعية، الا أن نسخ الفيلم البوزتيفوالنيجاتيف فقدت، ولم يتبق سوى نسخة واحدة مشوهة.!!
«اسمه محمد فى أفلامه»
«رتبة اللواء الفخرية»
فى عام 1979 منح الرئيس محمد أنور السادات رتبة «لواء فى الجيش المصرى» وهى رتبة عسكرية فخرية، وطلب منه وضع لحن لنشيد وطنى جديد، فابتهج عبدالوهاب بهذا التكليف، ولكن السادات لم يطلب ذلك من عبدالوهاب، فقد كان يقصد اعادة صياغة نشيد مصر « بلادى بلادى لكى حبى وفؤادى « لسيد درويش، وقد اختاره السادات ليكون النشيد الوطنى لمصر بعدما وجد افراد الشعب المصرى يرددونه عقب نكسة 1967، وكان السادات وقتها مقبلاً على معاهدة السلام، فرأى أن نشيد مصر الوطنى «والله زمان ياسلاحى» غناء كوكب الشرق أم كلثوم وكلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل لا تتماشى مع المرحلة القادمة للسلام مع إسرائيل، حيث تدعو كلماته للحرب والقتال.
لم يجد عبدالوهاب أى غضاضة فى اعادة صياغة لحن نشيد بلادى بلادى، خاصة أنه يعتبر سيد درويش أستاذاً له، ليتفرغ عبدالوهاب لمهمته العسكرية، كما أن أنور السادات وضع فرق الموسيقات العسكرية تحت أمر عبدالوهاب لكى ينهى مهمته الوطنية، وبعدما انتهى من عمله، فوجئ بقرار رئاسى بأن يقود اللواء محمد عبدالوهاب الموسيقى العسكرية وهو مرتدياً الزى العسكرى أثناء عزف نشيد « بلادى.. بلادى « لأول مرة فى تاريخها، وذلك أثناء استقبال الشعب للرئيس أنور السادات فى مطار القاهرة عائداً من أمريكا – يوم 31 مارس 1979 – بعد توقيعه لاتفاقية السلام.
وبذلك تحول النشيد الشعبى الذى ردده الشعب عام 1919 وعام 1967 الى نشيد رسمى، وتتوزع نوتته الموسيقية الى السفارات المصرية فى جميع أنحاء العالم، كما تم توزيع نسخ منها بجميع السفارات الأجنبية بالقاهرة، ليعرف الجميع النشيد الوطنى الجديد لمصر، ولكى يعزف فى جميع المناسبات الوطنية والدولية.