بعد أن تعارفنا قدمه صديقي قائلاً الأستاذ لديه مشكلة يريد أن يعرف رأيك كإنسان صاحب فكر ويمكن أن تجد أو تقترح حلاً للمشكلة، فابتسمت وقلت أشكرك على كلامك لكن لم أعرف بعد ما المشكلة؟
تطلع الأستاذ الذي بدا على وجهه علامات الحيرة والخجل فشجعته بقولي اتفضل فقال ابني الوحيد (ملاذ) بعد تخرجه من الجامعة هذا العام يظل طول النهار نائماً أو في غرفته لا يغادرها إلا ليلاً فيما عدا الضرورة القصوى ولو اضطر للخروج نهاراً فإنه يضع على عينيه نظارة سوداء وقد أصبح الأمر خارجاً عن المعقول وعندما نتكلم معه بهذا الشأن لا نصل إلى حل ويظل يردد لست بقادر على التعامل مع النهار أبداً!
وهنا قلت بمنتهى الصراحة ابنك يحتاج إلى علاج مما لا شك فيه، أعرضه على طبيب نفسي، وافقني الأب بهزة من رأسه وجلسنا نستكمل حديثنا حتى غادر المكان مع صديقي، لكن لم تغادرني الأسئلة عن معنى ما يحدث مع الشاب (ملاذ).
عندما تحدث الفيلسوف الفرنسي (ديكارت) عن الوضوح الفكري هل كان يقصد بالوضوح أن يكون مثل نور النهار الساطع وإذا كان الأمر صحيحاً فإن الفيلسوف لا يمكن أن يتعامل مع هذا الوضوح ليلاً عندما يفكر أو يتأمل!
ويطرح الكاتب الفرنسي (ميشيل فوسيل) في كتابه الليل: حياة بلا شاهد، أفكاره في فلسفة الليل هل يعني السهر ليلاً بقاء عينيك مفتوحتين على امتداده من خلال جملة النشاطات الليلية سواء كانت عملاً أو مرضاً أو أرقا وهنا يكون الليل معاناة. ويرى (فوسيل) أن جمال خصوصية الليل أن تتركه يقودك كما يشاء لا أن تكون واعياً مدركاً أنه ساعات محسوبة ينتهي بذات نهارية واعية بتصورها في قيادة كل ما حولها.
وتعبر كل قوة عن نفسها نهارياً لأنها تريد أن تعلن على الملأ حضورها وبأسها لتردع أو تخيف الآخرين بينما هي نفسها تخبئ ليلاً مكامن ضعفها وتسترها بستار الليل حتى لا ينتبه أحد إلى هذا الضعف أو الكشف ومن ثم الفضح.
ويلاحظ “فوسيل” أن الليل ديمقراطي مقارنة بالنهار لأنه يسمح بالاعتراض والتمرد على المألوف والتسامح والحلم بالأفضل، ومعظم الناس يتغاضون عن أفعال ليلية ربما لو حدثت نهاراً لكان لها ردود أفعال قوية ويقدم أمثلة عن المساواة الديمقراطية الليلية التي تبدو في الاحتفالات والسهرات والتي يتساوى فيها المشاركين لأنهم صانعيها بينما هناك حاجز في المسرح –غير الديمقراطي- بين الممثلين والمشاهدين ومن ثم فهو يعبر عن حياة النهار، لكن الحياة الليلية الساهرة لها قواعدها وعلاقاتها الخفية والتي تبدو أكثر تحرراً لكن لا توجد بها مساواة حقيقية.
ومن أجمل ما قيل في الليل ما أبدعه (سيد حجاب) عندما كتب، في الليل وفي التباريح يتلملموا المجاريح والغرب يتقاربوا يقفوا في وش الريح.