الحديث عن «هندسة الجغرافيا السياسية» لبعض المناطق فى العالم – لاسيما فى منطقة الشرق الأوسط- وفقا للمطامع والأهداف التى تحميها القوة والهيمنة الدولية يدفعنى للحديث عن مصطلح «الهندسة السياسية»، باعتباره مصطلح حديث نسبيا فى العلوم السياسية. لكنه بات يستخدم ضمن التكتيكات المستحدثة فى الصراعات.
مصطلح الهندسة السياسية ظهر عقب انهيار الاتحاد السوفياتى السابق ونهاية الحرب الباردة وبناء النظام العالمى الجديد. فى بداية ظهوره كان المصطلح أكثر ارتباطا واستخداما بمفاهيم أخرى فى حقل العلوم السياسية مثل التحوّل الدّيمقراطى وحقوق الإنسان ولم يكن قد انخرط بعد فى المعنى الحقيقى للمصطلح و الذى استقر عليه لاحقا وهو هندسة السياسات الدّاخليّة والخارجيّة للدّول ليكون أحد فروع علم السياسة
علم الهندسة السياسية فى مفهومه المثالى يهتمّ ببناء الدّولة وإدارة شئونها عبر تخطيط شامل للسلطة والمجتمع وبناء وإعادة بناء المؤسّسات العامّة والخاصّة ممّا يؤدّى إلى انتقال الدّولة إلى وضع أفضل ومتقدّم على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعيّة. لكن الآن مع الأسف للمصطلح نفسه استخدامات أخرى خبيثة . فمثلا تتم هندسة الصراعات وهندسة الاستعمار و كل هذا يتم بالاستقواء بالأطراف الدولية المؤثرة فى القرار العالمي. فلا يمكننا مثلا النظر لما يحدث فى قطاع غزة من إبادة و تجويع متعمد من قبل الاحتلال الإسرائيلى بمعزل عن الهندسة السياسية. فالشاهد أن الإبادة يتم هندستها والتجويع تتم هندسته ومن قبلهما مشروع تهجير الغزيين عن أرضهم و تصفية قضيتهم أمر يتم هندسته حتى من قبل أحداث السابع من أكتوبر بكثير.
المهام الكبرى فى عملية السياسة يحلو لأصحابها ربطها بالهندسة. فيقال مثلا أن فلان هو مهندس الصفقة الفلانية و فلان مهندس السلام أو مهندس الحرب. ذلك لان علم الهندسة فى الأصل تحكمه قياسات دقيقة. وعند تطبيقه فى العلوم الإنسانية يتم ربطه بالأهداف وتكون الغاية وضع حسابات دقيقة من أجل هدف معين و هو ما يسمى بالهندسة. فمثلا «هندسة التهجير» مصطلح يبدو للوهلة الأولى غريب أو مستغرب. حيث يدفعك للسؤال: هل يمكن فعلا «هندسة» عملية تهجير شعب بأكمله و طرده خارج أرضه قسرا؟!
ببساطة، «الهندسة» تعنى التخطيط الممنهج، والإدارة المنظمة، وهذا بالضبط ما تقوم به إسرائيل بحق قطاع غزة. فتسعى لتكديس سكان غزة البالغ عددهم مليونين و ثلثمائة ألف إنسان فى مساحات ضيقة من الأرض. ثم تطبق عليهم الحصار الشامل، وتمنع عنهم الحياة المتمثلة فى الطعام والشراب و الدواء ومواد الإغاثة أوتسمح بالقليل جدا على أوقات متباعدة و وفق شروط تعجيزية، فى إطار سياسات مدروسة بعناية، ولها أهداف واضحة ومحددة. وحين تبدأ المواد الغذائية بالنفاد، يبدأ الجوع فى قضم أرواح الأطفال والنساء وكبارالسن الذين لا تقوى أجسادهم الهزيلة على الصمود، فيموتون فى صمت حتى لا يكون أمام سكان غزة أى خيار سوى الرحيل أوالموت وتحتل إسرائيل غزة بالكامل وهذا هو الهدف الأساسى لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023 وما دونه من شكل بما فى ذلك استعادة الرهائن المحتجزين لدى حماس.
كل هذا لم يكن ليحدث وسط صمت دولى قاتل ما لم تكن هناك هندسة سياسية عالية التخطيط والدقة. فماذا فعل المجتمع الدولى حيال الإبادة الجماعية والتجويع فى غزة؟ومن قبل ذلك ماذا كانت كلمة المجتمع الدولى حينما أرادت إسرائيل تهجير الغزيين وفقا لخطة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب «ريفيرا الشرق الأوسط»؟ . كله دخل فى صمت مخجل. إلا مصر التى وقفت وقالت لا. مصر الكبيرة وقفت منفردة فى وجه التهجير مثلما سعت ولا تزال لإدخال المساعدات رغم إغلاق إسرائيل للمعابر. وبعد كل هذا لم تجد مصر من يقول لها شكرا. وهى لا تريد شكرا من أحد. لكن مثلا هناك من أصابه العمى وأخذ يحمل مصر مسئولية حصار غزة ويقول أنها تغلق المعبر!! وهذا فى رأيى ليس عمى عين أو ضمير بقدر ما هو مؤامرة على مصر تحكمها أيضا عملية هندسة سياسية دقيقة للأهداف الخبيثة فى المنطقة.
هندسة التهجير والإبادة والتجويع ليست مصادفة، بل جرائم منظمة تُدار وسط صمت مريب، وتنفذ بالاستقواء الدولى والدعاية الخبيثة بهدف كسر الناس من الداخل، ودفعهم للانهيار الكامل، بهدف الضغط سياسيا وإنسانيا لتقديم تنازلات على حساب الأرض والكرامة.