التدين الشكلى آفة تنخر فى المجتمعات؛ ذلك أنه تدين مغشوش يركز على الشكل ويتشدد فيه، ويهمل الجوهر الحقيقى الذى جاءت به الأديان، لإصلاح النفوس والضمائر؛ فلا هو يبنى نهضة ولا هو يضمن تفوقًا وحيازة لأسباب القوة بل إنه يكون سببًا مباشرًا فى التخلف نظرًا لهشاشة أصحابه وسطحيتهم وقابليتهم للاستقطاب والوقوع فى شراك التعصب والتطرف وإلغاء العقل والعداء مع كل اجتهاد يحقق صالح المجتمعات ويستوعب التطور الذى هو سنة الحياة.
يخطيء كثيرون حين يهتمون بإقامة شعائر الدين فقط بمعزل عن جوهر الدين؛ فجوهر الدين هو حسن المعاملة وإتقان العمل ومراقبة الله فى كل تصرف والإقبال على العلم وإعلاء شأن العقل والاجتهاد والإبداع بحسبانه محصلة عملية وترجمة مباشرة لقول الله تعالي: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل…» (من الآية 60 من سورة الأنفال).
فكيف يمكن لأمة أن تحصل أسباب القوة وهى غارقة فى تدين شكلي، يجعل المظهر والشعائر بلا عائد ولا أثر إيجابى فى الحياة، أى تدين غير منتج وغير مثمر، أى تدين عقيم لا يعمل العقل ولا يتدبر فى آيات الكتاب ولا فى آيات الكون..!!
ويحضرنى هنا ما قاله مفكرنا الكبير د.مصطفى محمود حين لمس هذا المعنى بقوة وسلاسة.. يقول: «لا تتوهم أن الدين هو أن تصلى وتصوم وتقرأ القرآن وتزكى وتحج وتنطق الشهادة.. وانتهى الأمر!
لا… هذه العبادات (عبادات شعائرية) وهى فرائض ستحاسب عليها لكنك لن تقطف ثمارها ولن تحقق أهدافها إلا إذا صحَّت «عبادتك التعاملية».. لن تصح إذا ظلمت وقصرت وآذيت وكذبت وشتمت… انتماؤك الشكلى إلى الدين هو بينك وبين الله.. أن تضع صورة للكعبة على جدار بيتك لا تكفي، وضع مصحف فى سيارتك لا يكفي، وآية قرآنية على حائط محلك لا يكفي، ومسبحة فى يدك لا يكفي، وأن تذهب للعمرة ثلاثين مرة لا يكفي!
أن تقف على سجادة الصلاة 70 ألف مرة لا يكفي!!
الدين هو استقامتك، معاملتك، رحمتك، صدقك، التزامك، عدلك، تربيتك لأولادك، برك لوالديك، إحسانك لزوجك، حفظك لسانك، غض بصرك، عملك، سعيك، نظافتك، ما فى جوفك، لسانك.. حسن تعاملك مع الآخرين.. الدين خُلُق.
يقول الحسن البصرى رحمه الله: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ولم يأتوا الأمر من أوله. قال تعالي: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. وما تدبر آياته إلا اتباعه لعلمه. أما – والله – ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله قد قرأت القرآن كله ما أسقطت منه حرفا… قد والله أسقطه كله، ما رئى القرآن له فى خلق ولا عمل».. وهذا بيت القصيد.. تدبر القرآن ليعقبه عمل بما فيه.. فالإيمان ما وقر فى القلب وصدقه العمل.. ولهذا يقول تعالي: «يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفعَلُونَ كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفعَلُونَ» [الصف ١-٣]
ما أخطر التناقض بين القول والفعل، والشكل والجوهر، مثل هذا التناقض يكون وبالًا على صاحبه.. «عن أبى زيد أسامة بن زيد بن حارثة رضى الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار فى الرحي، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلي، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه».
وفى رأيى أن نكبة الأمة فى قصور فهم بعض بنيها لجوهر الدين وغايته؛ فالبعض يخشى فى نهار رمضان أن يبتلع قطرات ماء؛ بينما لا يتورع عن ابتلاع حقوق اليتامى وميراث البنات وأموال الغير..وفى كتابه «علل وأدوية» يرى الشيخ الغزالى أنَّ الاهتمام المبالغ فيه بالمظهر على حساب الجوهر سبب فى هزيمة الأمة هزيمة نكراء فيقول : وعندما يتحول التدين إلى حركات بدن، وإتقان شكل، فإن حقيقته تضيع وغايته تبعد أو تتلاشي. المعنى الأصيل للتدين أن يكون حركة قلب، ويقظة فكر، أما المراسم الجوفاء والصورة الشاحبة فلا دلالة لها على شيء، ومن عجز عن تصحيح قلبه ولبه فهو عما سواهما أعجز، ويوم يتولى عملا ما فى المجتمع فسوف يكون نموذجا للفشل لأنه لن يدفع تيارات الحياة إلى حيث يجب، بل ستدفعه هذه التيارات إلى حيث تشاء. وهنا الهزيمة الشنعاء للدين والدنيا».
شعائر الله واجبة التعظيم لا جدال فى ذلك « ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج:32).
والسؤال: لماذا لا يركز الدعاة وخطباء المساجد على هذه المعاني..حتى لا تتحول عباداتنا الشعائرية إلى غاية فى ذاتها دون أن يعقبها فعل يصدقها، الأصل أن تترجم العبادات الشعائرية التى هى مهمة بل فريضة لا يقبل التهاون فيها إلى معاملة تحقق الهدف الحقيقى من التدين، وهو حسن الخلق وحسن التوكل على الله وحسن المعاملة مع الناس وأداء كل واحد واجبه فى الحياة.