مسكين هذا الإنسان اللاهث وراء الثقافة.. الباحث عن الحقيقة بين صفحات التاريخ.. فيظل متأرجحاً بين هذا وذاك لا يعرف بأى النجوم يهتدي.. ولا أين الحقيقة بين هذا الزخم من المتناقضات.. فكلما استقر على ميناء.. وبدأت خيوط اليقين تثبت على حال.. فوجئ برأى متناقض.. يهدم ما استقر وثبت فى يقينه.. هكذا يصوغ التاريخ المستفيدون وتأتى لك الحقائق مغلفة برداء المصلحة والمنفعة.. وما تقرأه عن الزعيم فلان.. بقلم المؤرخ فلان.. قد يأتى آخر منصف أو غير مستفيد.. فترى عكس ما قرأت.. وفى العالم الثالث.. وحتى المتقدم.. ربما تظل الحقيقة فى طيات الكتمان حتى يزول جيل وراء جيل يجهل حقيقة ما عاش وشاهد حتى تأتى أجيال.. فلا يعنيها ما تطلع عليه.. وربما تصيبها الدهشة من حقيقة ما قرأت أو اطلعت عليه.. إذا كان باحثاً فى طيات التاريخ عن حياة الأمم والشعوب.
.. ولك عزيزى وصديقى القارئ.. أن تندهش.. إذا عرفت أن ما درسته على سبيل المثال لا الحصر بأن مكتشف الجاذبية ليس اسمه نيوتن.. وأن ما درسته ودرسه العالم بأسره.. غير الواقع وغير الحقيقة.. وأن مكتشف الجاذبية هو «أبوالريحان البيروني» وفى كتابه «القانون المسعودي» جاءت كل الحقائق والتجارب عن ذلك.. وأن كل أعمال البيرونى ومؤلفاته وجدت مترجمة إلى اللاتينية فى مكتبة نيوتن بعد وفاته.. وكتب كل التفاصيل وكشفها المؤرخ العالمى جورج سارتون.. وقدمها للعالم بعد فوات الأوان واستقرار النظريات ولم يلتفت إليه أحد.. وظل الكذب الذى ارتدى ثوب الحقيقة هو السائر والمدروس والمشهور.
.. ونفس المؤرخ الباحث ألقى بقنبلة أخرى بأن مكتشف قوة البخار الذى سارت به السفن والقطارات ليس جورج ستيفنسون الإنجليزى وإنما القاضى محمد تقى الدين الذى ولد فى مكة وعاش فى القاهرة.. ورصد ذلك بالتجارب فى كتابه «الآلات الروحية» مع رسومات للآلة البخارية التى اخترعها.
>>>
وأنا شخصياً عشت هذه الحيرة التاريخية فى مجالين أو واقعين أهتم بهما وأبحث عنهما دوماً.. الأول حول كربلاء ومقتل الحسن والحسين وآل البيت بسيوف آل معاوية.. وما استقر فى يقينى من كراهية للعنف وسفك الدماء باسم الدين وتعاطفى الشديد مع الحسن والحسين سبطى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والحضور الذى لا يغيب عن خاطرى لكلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم.. «لهدم الكعبة طوبة طوبة.. أهون عند الله من إراقة دم مسلم».. وما تقرأه عن معاوية كاتب الوحى اللصيق المحب لرسول الله.. والتقوى والورع.. كيف يستقيم ذلك مع وقائع التاريخ ومعارك الفتن وإراقة دماء آل البيت.
>>>
المبحث الآخر الذى يصيبنى بالدهشة أيضاً وإن كنت على يقين وقناعة بما استقر لدى مهما قرأت غير ذلك.. فهو خاص بتناقض الآراء والمذكرات والمؤلفات الاجتماعية والتاريخية عن شخص الزعيم جمال عبدالناصر.. ومع تقديرى لكل الآراء ووجهات النظر.. وأن الزعيم خالد الذكر «ناصر».. بشر يخطئ ويصيب وله ما له وعليه ما عليه.. وإن كان قد أخطأ فى حرب اليمن.. وطرد قوات السلام قبل 67.. وترقية الرائد عبدالحكيم عامر إلى رتبة المشير وترك الجيش بقواده وولائهم لقائدهم أكثر من الولاء للوطن والولاء للرئيس ناصر.. وما تبع ذلك من أضرار بالغة ألمت بالوطن وأدت إلى نكسة ٥ يونيو.. فإن الزعيم ناصر رجل وطني.. عاشق لهويته المصرية وقوميته العربية داعم لكل حركات التحرر.. قائد وطنى شعبى استطاع أن يحقق العدالة الاجتماعية فى أسمى صورها.. واحد من أفراد هذا الشعب.. استطاع أن يسكن القلوب بعلمه وعدالته وحبه للوطن والمواطن.. وما يأخذ عليه الآخرون من طبقة الاقطاع وأصحاب الاملاك والبهوية.. لا يقلل أبداً من كونه وطنياً من تراب هذا الوطن.. عاش للوطن.. ومات للوطن.. فاستحق أن يسكن قلوب كل أهل الوطن حتى اليوم.
يقولون: إن التاريخ يكتبه المنتصرون.. وأنا أقول إن التاريخ يكتبه المستفيدون!!