ولدت بين وحوش السيرك.. و«قرشان صاغ» أول أجر لها
تمثال لها فى مدخل مسرح «البوليشوى».. بأوامر خروتشوف
لقنت كاميليا علقة ساخنة فى معركة نسائية بكواليس «بابا عريس»
الفنانة الراحلة نعيمة عاكف واحدة من أهم نجمات السينما المصرية فى زمن الفن الجميل، فهى أشهر نجمة استعراضية فى تاريخ السينما المصرية، ولموهبتها الفريدة استطاعت أن تعتلى عرش الرقص الاستعراضى فى فترة خمسينيات القرن الماضى وتخطف قلوب الجماهير، ولم تتوقف موهبتها عند فنون الرقص فقط بل إن موهبتها امتدت للغناء والتمثيل وتقديم المنولوجات، لذا فهى من الفنانات القليلات التى كانت تمتلك وتجمع وببراعة فائقة تلك المواهب.
وكانت خفيفة الظل وقريبة إلى القلب،وجاء تألقها فى عالم السينما برشاقتها وخفة دمها مما جعلها تحمل لقب نجمة ومعبودة الجماهير فى فترة قصيرة.
ورغم مشوارها الفنى القصير الذى لم يتعد 16 عاماً والوفاة المبكرة فى عز شبابها فى 23 ابريل 1966 ، إلا أنها استطاعت أن تقدم أعمالًا تركت بصمة فى ذهن المشاهد، وتظل نعيمة عاكف – الفراشة التى رحلت فى ريعان شبابها – هى أيقونة الرقص الشرقى والاستعراضى وقمة التألق الفنى لدى عشاقها وجمهورها، فهى فنانة بعيدة عن المقارنة، فأدائها الراقص التعبيرى التى كانت تقوم بتصميمه جعلها صاحبة أجمل الرقصات الاستعراضية الغنائية التى تخلب بها الألباب.
نعيمة عاكف الفنانة المصرية الوحيدة التى أعجب بها وبأدائها رئيس الاتحاد السوفيتى السابق نيكيتا خروتشوف، بعد أن تربعت على عرش الرقص الشعبى وحصلت على لقب أحسن راقصة فى العالم من مهرجان الشباب الذى أقيم فى العاصمة الروسية موسكوعام 1958، ومن شدة إعجابه بها أمر خروتشوف بتصميم وصنع تمثال لها وضع بمدخل مسرح البولشوى العالمى، تلك هى نعيمة عاكف التى يمر على رحيلها 58 عاماً، حيث رحلت وهى لم تكمل 37 ربيعاً، تاركةً خلفها عدد كبير من الأعمال الخالدة فى تاريخ السينما المصرية والعربية.
الميلاد وسط وحوش السيرك
ولدت أيقونة الجمال والإبداع الفنانة نعيمة سيد إسماعيل عاكف فى 7 أكتوبر 1929 بمدينة طنطا، فى السيرك الذى تمتلكه عائلتها وسط الوحوش ولاعبى الأكروبات والألعاب البهلوانية، وكانت هى الشقيقة الصغرى لأربع بنات كلهن يعملن بالسيرك الذى كان يعمل فى المناسبات والأعياد والموالد خاصة فى أيام الاحتفال بمولد السيد البدوى، وعندما ولدت نعيمة وفتحت عينيها على الدنيا لم تستقبلها عائلتها بالأفراح بل استقبلتها بالبكاء والعويل والحزن، لأنهم كانوا يرغبون فى أن يكون المولود ولدا بدلا منها فقد كانت هناك ثلاث شقيقات، ولأنها أنثى تحملت نتيجة القدر والعقاب على ما لا يد لها به، وعانت من قسوة والدها الذى لم يكن يعلم أنه يملك دجاجة ستبيض ذهباً، فكان يقوم باستغلال بناته فى السيرك الذى قد ورثه عن والده، ويأخذ كل إيراداته للذهاب إلى مائدة القمار، ولا ينفقه على أسرته.
بدأت أسطورة الفن نعيمة عاكف مشوارها الفنى وهى فى الـرابعة من عمرها فى السيرك الذى كان يمتلكه والدها، وكانت فى البداية ترفض أن تشارك شقيقاتها فى ألعابهن البهلوانية، ولكن والدها شعر أن طفلته الصغيرة تمتلك إمكانات تختلف عن بقية أخواتها، ومن الممكن أن تصبح نجمة فى عالم الأكروبات والسيرك ابتداء من تلك المرحلة المبكرة، وهنا لجأ والدها لحيلة تمكن من أن يجذبها لعالم البهلوانات فقام بخدعة كى يُعلمها أصول المهنة وهى فى هذه السن، فبدأ يُعلم شقيقتها الكبرى بعض الحركات الاستعراضية الخاصة بالسيرك ويثنى عليها ويُشيد بموهبتها أمام نعيمة مما جعلها تغار من شقيقتها الكبرى، فأصرت على أن تتعلم هذه الحركات وبشكل أسرع منها لينجح والدها فى أن يجذبها لذلك العالم ويجعلها نجمة وهى فى مرحلة الطفولة.
قرشان .. الأجر اليومى
أصبحت نعيمة عاكف نجمة الفرقة منذ كان عمرها أربع سنوات، وعندما بلغت السادسة من عمرها شعرت بأهميتها فطالبت والدها بأجر عملها فى السيرك وهددته بترك المكان، فاضطر أن يرضخ لها بعد أن هربت بالفعل، وأعادها البعض ممن يعرفها من رواد السيرك، فخصص لها والدها قرشين أجر يومها فى السيرك وقت العمل، وفى الإجازات قرشاً واحداً.
الطريف أن أول مواجهة لنعيمة عاكف أمام الجمهورفى أحد حفلات السيرك كادت أن تلقى حتفها أو تتكسر عظامها، أو على الأقل تعتزل مهنة أو لعبة الأكروبات، فبعد أن تدربت كثيراً على القفز فى الهواء عدة مرات، وتتشقلب وتنزل واقفة على أرضية المسرح، حدث أن انتابها خوف شديد عندما وجدت حولها جمهور غفير، فأصابتها رجفة فلم تستطع تأدية حركة القفز والشقلبة فى الهواء لتسقط على الأرض وسط صيحات وصراخ الجمهور، ولكن الحظ خدمها لأنها وقعت فوق أرضية المسرح والمغطاة بغطاء قطنى سميك لتنجو من المصير المجهول، ومع تصفيق الجمهور تشجعت لتعيد نفس القفزة فى الهواء وتنجح فى تنفيذها وسط أهات وتصفيق وتشجيع الجمهور.
شارع محمد على
كان والدها مدمن لعب القمار حتى انه فى ليلة رهن السيرك بأكمله وخسره على طاولة القمار بكل معداته وأدواته، مما اضطره لأن يترك مدينة طنطا ويرحل مع أسرته إلى القاهرة، وعندما بلغت نعيمة عاكف سن العاشرة تزوج والدها من سيدة أخرى، فأخذت الأم بناتها الأربع لتعيش معهن فى شقة صغيرة متواضعة بشارع محمد على، ولشظف العيش ولعدم وجود مهنة يعملن بها، اضطرت الفتيات أن يعودن لمهنتهن القديمة حتى ولو لم يوجد سيرك، فسرن فى الشوارع يتشقلبن فى أكروبات التى اعتدن عليها أمام المقاهى كى يكسبن بعض القروش لتكفى شبح الجوع عن الأسرة الفقيرة، وبرزت نعيمة وسط أخواتها بحركاتها البهلوانية التى كانت تجذب الأنظار، حتى شاهدهن يوماً الفنان على الكسار فأعجب بهن فأخذهن معه لمسرحه واتفق معهن ليقدمن نفس الفقرة البهلوانية التى يقدمنها فى الشارع لتكون فقرة ترفيهية أثناء فصول عرضه المسرحى مقابل 12 جنيهاً شهرياً!!
بالرغم من أن المبلغ كان يكفى أسرتها فى ذلك الزمن، إلا أنها كانت تبحث عن الأفضل وبالفعل بعدما أبهرت الجميع، اختطفت الفنانة بديعة مصابنى الشقيقات لمسرحها ورفعت أجرهن إلى 15 جنيهاً شهرياً، وقامت بديعة بتعليم نعيمة عاكف فن المونولوج والرقص الشرقى حتى لقبتها بديعة بـ«اللهلوبة»، ومع ذلك لم يدم وقتها مع بديعة طويلًا، بسبب أن بديعة فضلتها على زميلاتها وزملائها، مما جعلهم يشعرون بالغيرة.. وذات يوم تجمعوا عليها وحاولوا ضربها، لكن نعيمة أثبتت أنها أقوى وأكثر رشاقة منهم، وفازت بالمعركة القتالية مما تسبب فى طردها من كازينو وملهى بديعة.
السينما تفتح أبوابها
لم يدم الحال طويلاً فقد انتقلت نعيمة إلى مكان آخر ألا وهو ملهى «الكيت كات» والذى كان بالمصادفة يرتاده معظم مخرجى السينما، وبالفعل عملت فى ذلك الملهى لفترة طويلة، إلى أن جاءت النقلة الكبيرة التى غيرت حياتها بالكامل، ففى أحد الأيام شاهدها المخرج محمد كريم وأعجب بأدائها، فطلب منها أن تقدم مشهد راقص على الشاشة بفيلم «حب لا يموت» عام 1948 والتى لعبت بطولته راقية إبراهيم وزوزو شكيب وسراج منير وعباس فارس، ولم يذكر اسم نعيمة عاكف فى بوستر الفيلم بل كتب اسم الوجه الجديد وحيد صالح الذى لعب البطولة أمام راقية إبراهيم.
جاء ثانى ظهور لها على شاشة السينما على يد الفنان أنور وجدى، وهو أول من أعطى لها دوراً تمثيلياً عندما قدمها فى ثانى ظهور لها على شاشة السينما كبطلة أمامه فى فيلم «آه ياحرامى» وبمشاركة سليمان بك نجيب وزينات صدقى وإسماعيل يس، وزين انور وجدى بوستر دعاية الفيلم بدعاية صارخة فكتب: «صانع العجائب السينمائية أنور وجدى يقدم لأول مرة نعيمة عاكف فى الفيلم العجيب « آه ياحرامى»، وهو الفيلم الذى لعب بطولته وإخراجه وإنتاجه عام 1948 أيضاً، وبذلك يكون هو المكتشف الحقيقى لموهبة نعيمة عاكف الفنية، وفى الفيلم أبرزت نعيمة قدراتها الاستعراضية إلى جانب أدائها التمثيلى، ولكن فيلم « آه ياحرامى « لم يحقق النجاح الذى كان ينتظره أنور وجدى، واعتقدت نعيمة أن الدنيا توقفت عند ذلك الفيلم، ولكنها رأت أنها لم تخسر شيئاً فهى ما زالت ترقص فى ملهى الكيت كات ولها جمهورها الخاص الذى يحضر كل ليلة لمشاهدتها.
تشاء الصدفة أن يشاهدها المخرج أحمد كامل مرسى وهى ترقص رقصة «الكلاكيت» ببراعة فاندهش من مرونة جسدها، فطلب منها تقديم نفس الرقصة من خلال مشهد بفيلمه «ست البيت» بطولة فاتن حمامة وعماد حمدى، وافقت نعيمة عاكف على الفور وسعدت أنها ستعود مرة أخرى للسينما حتى ولو بمشهد راقص آخر، ولكن المخرج حسين فوزى الذى كان يشاهدها فى صالات الرقص كان له رأى أخر، وأيقن أنه أمام موهبة فنية بل جوهرة نفيسة، فقد كانت له نظرة «الجواهرجى» الذى يعرف كيف ينتقى الألماس، وبنظرته الثاقبة رأى أنها نجمة موهوبة تنتظر من يأخذ بيدها، فلم يقتنع بأن تؤدى دور راقصة فى مشهد عابر بفيلم « ست البيت « فأخذها لتشارك فى بطولة فيلم «العيش والملح» أمام الوجه الجديد آنذاك الفنان والمطرب سعد عبدالوهاب فى أول ظهور له بالسينما.
لهاليبو
عقب النجاح الباهر لفيلم «العيش والملح» تعاقد معها حسين فوزى على احتكارها كبطلة فى الأفلام التى يخرجها لحساب استديو نحاس فيلم، فأسند لها بطولة فيلم «لهاليبو» والذى نجح نجاحاً كبيراً جعلها تنطلق لسلم النجومية والشهرة بسرعة الصاروخ.
ورغم فارق السن الكبير بينهما إلا أن المخرج حسين فوزى وقع فى غرامها وأحبها وتزوجها ونقلها من شارع محمد على إلى فيلا بحى مصر الجديدة، وتغيرت الحياة معها إلى النقيض فامتلكت نعيمة سيارة، وأصبح لها رصيد فى البنوك، ولأنها لم تتعلم التعليم الكافى بسبب ظروف حياتها فى طفولتها وعملها فى السيرك كان يمنعها من الاستقرار فى مدرسة، فقامت بتعليم نفسها، واستعان زوجها بمدرسين ليلقنوا زوجته دروساً فى اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وبذلك أصبحت تتحدث ثلاث لغات، كما قام بتعليمها «الإتيكيت» من تناول الطعام والحديث مع الآخرين.
ولسطوع نجومية نعيمة عاكف تم اختيارها لتقوم ببطولة أول فيلم مصرى بالألوان فى تاريخ السينما المصرية «بابا عريس» عام 1950 مع الفنانة كاميليا التى توفيت قبل عرض الفيلم بأيام قليلة عقب سقوط الطائرة التى كانت من ركابها، كما عادت نعيمة لتعمل مع أنور وجدى فى فيلم «أربع بنات وضابط» – وهو أول فيلم تخرج فيه نعيمة من عباءة زوجها – من بطولة وإخراج أنور وجدى وهو الفيلم الذى اشتهر باستعراض «العدس الليلة» والذى كان آخر أفلام أنور وجدى فى السينما حيث توفى فى العام التالى 1955.
26 فيلماً
مشوار نعيمة عاكف فى السينما يصل إلى 26 فيلماً على مدار 16 عاماً فى الفترة من عام 1948 حتى عام 1964، فقدمت فى فترة الأربعينات خمسة أفلام، بينما قدمت فى الخمسينيات 15 فيلماً بمعدل ثلاثة أفلام كل عامين، ثم قدمت 6 أفلام فى فترة الستينات والتى شهدت بداية تخليها عن أداء الدور الأول، بينما كان آخر أفلامها مع زوجها المخرج حسين فوزى فيلم «أحبك يا حسن» عام 1958 مع الفنان شكرى سرحان وقامت خلاله بتصميم رقصاتها فى الفيلم وقدمتها مع فرقتها «باليه نفرتيتى»، بينما كان آخر فيلم فى حياتها الفنية الفيلم الشهير «أمير الدهاء» عندما جسدت شخصية الجارية زمردة مع الفنان فريد شوقى اخراج هنرى بركات، وهو يعتبر آخر أفلامها السينمائية واعتزلت بعدها لظروف مرضها ورعاية ابنها الوحيد محمد، والمفارقة أنها لم تشترك فى أى عمل مسرحى بالرغم من أنها كانت فنانة استعراضية.
لعبت نعيمة عاكف أدوار البطولة فى معظم أفلامها أمام كبار الفنانين، أمثال رشدى أباظة فى «تمر حنة»، و»خلخال حبيبى»، وأنور وجدى فى «أربع بنات وظابط»، ومحمد فوزى فى «يا حلاوة الحب»، وفريد شوقى فى «أمير الدهاء»، وشكرى سرحان فى أفلام «أحبك يا حسن»، و»عزيزة»، و»بابا عريس» و»لهاليبو»، ويوسف وهبى «فى بحر الغرام».
بعد ما يقرب من عشرة أعوام انفصلت نعيمة عاكف فى هدوء عن زوجها المخرج حسين فوزى، والتقت المحاسب القانونى صلاح الدين عبدالعليم ليدير أعمالها، إلا انها أحبته وتزوجته عام 1959 وأنجبت منه ابنها الوحيد محمد صلاح الدين ليتحقق حلم حياتها التى عانت منه سنوات وهو أن يكون لها ابن، حيث كان زوجها الأول رافضاً الإنجاب مكتفياً بأولاده من زوجته الأولى، وبعدما رزقت نعيمة عاكف بابنها الوحيد هاجمها المرض الخبيث فى أمعائها ليقضى عليها، فقد كان حظها فى الحياة وهذا العالم قليلاً بالرغم من أنها أسعدت الملايين إلا أن حياتها كانت قصيرة.
نوادر ومواقف
ومن نوادر نعيمة عاكف أنه فى عام 1950 قرر المخرج حسين فوزى أن يجمع زوجته نجمة الاستعراض بجميلة الجميلات الفنانة كاميليا فى فيلم واحد، ودفعه الحماس لأن يصور الفيلم بالألوان الطبيعية أسوة بالأفلام الأجنبية، وهو ما حدث فى فيلم «بابا عريس» ليصبح هذا الفيلم أول فيلم مصرى بالألوان الطبيعية، والذى شارك فى بطولته أيضاً شكرى سرحان وحسن فايق ومارى منيب وفؤاد شفيق.
لكن الجميلتين لم يتفقا معاً ودبت الخلافات والمشاحنات والمشاجرات بينهما بسبب المنافسة، وأيضاً الغيرة الشديدة، خاصة أن اسم نعيمة عاكف سيتصدر أفيشات الفيلم والدعاية، مما دفع كاميليا محاولة التقليل من قيمة نعيمة عاكف والاستهزاء بها بشتى الطرق بسبب نجوميتها، وعندما فشلت أحضرت معها خادمة أطلقت عليها اسم «نعيمة»، وكانت كاميليا تجلس وسط العاملين بالاستوديو وتنادى على خادمتها بصوت عال وتطلب منها أن تساعدها فى ارتداء الحذاء قائلة بكبرياء : «لبسينى الجزمة يا نعيمة»، وعندما تخطئ تقوم بوصفها بأسوأ النعوت مع وصلة شتائم، والمقصود بها نعيمة عاكف، إلا أن نعيمة لم تحتمل ذلك الوضع فوقفت تعطيها وصلة شتائم وسباب انتهت بمعركة نسائية كبيرة انتصرت فيها نعيمة، ولقنت كاميليا علقة ساخنة وكدمات فى وجهها وأنحاء جسمها أثبتت فيها أنها الأقوى.