أحيانًا، تأخذنا دوّامة الحياة، فنسعى خلف الطموح والأمل، ونتعلق بأحلامنا كأنها كل ما نملك، وننسى النعمة التى نتنفس بها كل لحظة: نعمة الصحة. لا نتذكرها إلا حين نتعثر فجأة، حين يتوقف الزمن فى لحظة ألم، أو يخيّم الصمت فى ركنٍ من غرفة عناية، فنُدرك كم كنا غافلين، وكم نحن بحاجة إلى الرضا… وإلى الله.. فى لحظات كهذه، يُختبر الإنسان فى أثمن ما يملك، ليقف وجهًا لوجه مع حقيقته الأعمق: أننا مهما بلغنا من قوة أو معرفة، نظل فى النهاية عبيدًا بين يــدى الله، لا نملك لأنفسنا ضرًّا ولا نفعًا، ولا شفاءً إلا بإذنه. هناك، يسقط كل شىء كنا نظنه كبيرًا، ويتجلّى فقط ما هو حقيقى: الرضا، التسليم، واليقين.
منذ أيام، وجدت نفسى على سرير فى المركز الطبى للإنتاج الحربى، فى لحظةٍ لم تكن مجرّد أزمة صحية، بل امتحان إيمانى عميق، يُعيد ترتيب أولويات الحياة كلها. دخلتُ وأنا أشعر أن جسدى يضعف، وأن اللقاء مع الله قد يكون أقرب مما أتوقع. لكن وسط الظلمة، كان هناك نور صغير يتوهج فى قلبى، يقول لى بثبات: «قُل لَن يُصيبَنا إِلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَولانا».. لم تكن المعجزة فى الشفاء الجسدى فحسب، بل فى الوجوه التى بعثها الله حولى، بقلوب رحيمة وضمائر حية. على رأسهم الطبيب القدير الأستاذ الدكتور خالد شكرى، الذى كانت يداه – بعد الله – طوق نجاة فى لحظة حرجة، حين أجرى عملية دقيقة لتفتيت جلطة بالقلب، وتركيب دعامة، والاستعانة ببالون.. والطبيب الإنسان الدكتور مينا أسعد، الذى تابع حالتى قبل وبعد العملية بروحٍ تحمل الكثير من الطمأنينة والرحمة، وعلمنى أن الطب رسالة سامية، لا تقف عند حدود الأدوية والتقارير، بل تبدأ من القلب وتمتد إلى الروح.. قضيتُ ليلة فى العناية المركزة، لكنها لم تكن مجرد ساعات تمضى، بل عمرٌ كامل فى مشهدٍ إنسانى نادر.. فى تلك الساعات، لم يكن النوم ممكنًا، لا بفعل الألم فقط، بل بفعل المشاهد التى حُفرت فى الذاكرة: أنينُ المرضى من حولى، بعضهم يستنجد بصوت خافت، وبعضهم يُصارع فى صمت.. وخلف الزجاج، كانت وجوه الأهل تنتظر، تترقب، تدعو.. أمهات تُخفى دموعها، وأبناء يضغطون على أيديهم كأنهم يمسكون بالأمل.. وهناك، تعلمت أن الوجع يوحّد القلوب، وأن الألم كاشف حقيقى للإنسان.. لم أعد أرى الفوارق، ولا الطبقات، ولا الطموحات القديمة.. رأيت البشر كما هم: ضعفاء، محتاجين، يركنون إلى رحمة الله، حين تُغلق كل أبواب الأرض.. على هذا السرير، بوحدة القلب، أدركت أن كل ما نركض خلفه فى الدنيا لا يساوى نبضة قلب مطمئن، ولا لحظة راحة بعيدًا عن الألم.. الوظيفة، النجاح، الخلافات اليومية، وحتى الأحلام الكبيرة.. كلها تتضاءل أمام نعمة العافية..فالسلام الحقيقى لا يسكن فى رصيدك البنكى، ولا فى عدد من يعرف اسمك، بل يسكن فى قلبك إذا رضى، وعقلك إذا سلّم، وروحك إذا شعرت بالامتنان لأبسط النِّعم.
خرجتُ من المستشفى بجسدٍ قد يكون أقوى، لكن الأهم أننى خرجت بروحٍ مختلفة، تعرف قيمة النَّفَس، وتُدرك كم هى النِّعم حولنا عظيمة، فقط نحن ننسى أن نراها.. وصدق رسول الله «صلى الله عليه وسلم»، حين قال: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له».
اليوم، أقف على قدميّ وأنا أحمد الله، وأعلم أن ما مررتُ به كان درسًا من دروس الحياة. وأستشعر وعده الجميل: «وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرْتُم لَأَزِيدَنَّكُم».. اليوم استعد لجولة جديدة مع حياة جديدة أنظر إليها نظرة مختلفة.. اللهم لك الحمد، على العافية، وعلى الألم الذى فتح بصيرتى، وعلى كل قلبٍ طيّب وقف بجانبى، وعلى كل لحظة حياةٍ نعيشها ونحن لا نعلم كم هى ثمينة. اللهم اجعلنا من الحامدين الصابرين، الراضين بما كتبت، الهادئين فى وجه العواصف، الواثقين بك وبحكمتك فى كل شىء. واجعل فى كل تجربة ألم، بابًا يُفتح إلى نور، وميلادًا جديدًا يحمل فى روحه حبك ورضاك.. بعد أيام قليلة عدتُ إلى نفس الصرح الطبى ، ولكن هذه المرة إلى عيادة الجراحة ، لإجراء بسيط : فك ست غرز.. كنت أحمل فى قلبى صورة مشرقة عن المكان ، لأصطدم بواقع مختلف تماماً واجهت لا مبالاة غير طبيعية وإهمالاً لم أره فى حياتى.. تمريض يتعامل بجفاء يمحو كل معنى للرحمة، ونظام يكشف عن وجه آخر مرير، يختلف كلياً عن العناية الفائقة التى حظيت بها.. التناقض الصارخ جعلنى أقف حائراً.. هل كانت العناية الأولى استثناءً؟ هل كان اهتمام الأطباء الكبار ضوءًا ساطعاً يخفى خلفه واقعاً أقل إشراقاً؟