الغناء اليوم «فقاقيع هوا».. والـ«دى جى» بلا روح !



فى مقهى «حسب الله» العتيق بقلب شارع محمد علي، لا تزال رائحة البن القديمة تعانق عبير ذكريات مضت وضوء الشمس يتسلل عبر الزجاج القديم، يُلقى بظلاله على وجه رجل سبعيني، يبدو وكأنه يحمل فى كل تجعيدة من وجهه حكاية لحن. ترومبيته اللامع يستقر بين يديه، رفيق دربٍ امتد لعقود. عيناه تُطلان على صخب الشارع المعهود، لكن روحه تبدو سارحة فى ميادين احتفالات غابرة، حيث كان صوت «حسب الله» يتردد كإعلان عن الفرح. على الجدار المقابل، صورة باهتة لعبد السلام النابلسي، وفى الذهن كلماته الخالدة من فيلم «شارع الحب»: «أنا حسب الله السادس عشر، آخر سلالة آل حسب الله… السلالة التى غزت جميع الميادين من ميدان الحسنية لميدان المدبح، من القاهرة للإسكندرية، أنا حسب الله ربيب الفن ونابليون أكبر فرقة موسيقية نحاسية».
هذه الكلمات تُلقى بظلالها على المشهد، مُثيرةً سؤالاً عميقًا حول مصير هذا الإرث الفنى العظيم. فى هذا الحوار الشيق نلتقى مع آخر حبه فى عنقود المواهب الفنية الأصيلة انه الموهوب عزت الفيومى آخر الأوتار النحاسية الباقية من فرقة «حسب الله» الأسطورية، الذى تحدث لـ«الجمهورية» من القلب عن رحلته الطويلة وذكرياته فى شارع محمد على وفرقة حسب الله وهل اندثر فن الآلات النحاسية الشعبية الأصيلة وهدده الدى جى واغانى المهرجانات والأصوات النشاذ التى سيطرت على الساحة الغنائية أم مازال هذا الارث الخالد باقيا يرفرف عاليا فى سماء الفن الأصيل ، وهل تحول الذوق العام وفقدت الموسيقى الشعبية مكانتها وهل انفصلت الأجيال الجديدة عن هذا الأرث الذى شكل وعى أجيال سابقة بأكملها؟
كل هذه الأسئلة تجد اجاباتها فى هذا الحوار.
< نرى صورتك تتداخل مع كلمات الفنان الخالد الراحل عبد السلام النابلسي، الذى جسّد على الشاشة روح «حسب الله السادس عشر»… ألا تشعر بأنك تحمل على كتفيك أكثر من قرن ونصف القرن فى الأفراح وليالى الملاح المصرية، تاريخ من البهجة انطلقت من هذا الشارع العريق؟ وهل ما قاله النابلسى عن «غزو الميادين وكونه ربيب الفن ونابليون أكبر فرقة موسيقية نحاسية» يُشكل عبئًا ثقيلاً على كاهلك، أم فخرًا يضيء دربك فى زمن يتلاشى فيه هذا الفن شيئًا فشيئًا؟
<< (بصوت يحمل خشونة الزمن ورقة الشجن، يبتسم وهو يرفع الترومبيت قليلًا كمن يُقدم تحية): «هو فخر يا بني، فخر وعبء فى آن واحد. (يتنهد بعمق، وكأنه يستعيد لحظة بعيدة) النابلسي… الله يرحمه، كان فنان بجد، حس بروح ‹حسب الله› ودق قلبه. لما قال الكلمات دي، كانت حقيقة مُعاشة، كنا بنغزو الميادين مش بالسيوف أو بالمدافع، بس بالبهجة الخالصة، بالموسيقى اللى بتُسرى فى الدم. صوت الترومبيت والمزمار البلدي، دقات الطبول اللى بترج الأرض… كل ده كان بيوصل لقلوب الناس، يخليها ترقص وتفرح، ويطرد أى هم أو حزن كامن. إحنا ما كناش مجرد فرقة يا بني، إحنا كنا حالة، كنا احتفالاً متنقلاً، إعلاناً رسمياً بأن السعادة وصلت إلى هذا المكان، وأن الحياة لسه بخير وبها متسع للبهجة. العبء… (يُخفض صوته قليلًا) هو إزاى أحافظ على الروح دى فى زمن بقى فيه ‹الدى جي› هو ‹نابليون› الجديد؟ زمن كل حاجة فيه بتجرى بسرعة البرق، والفن بقى زرار بندوس عليه، مش روح بتطلع من قلب وتتجسد فى أنامل تعزف.»
< حدثنا عن رحلتك الفنية الطويلة وكيف التحقت بفرقة حسب الله؟
<< جئت من الفيوم عام 1965، شابًا يجذبه سحر الموسيقى إلى شارع محمد على الذى هو بمثابة عصب الحياة الفنية الشعبية. والتحقت ، بفرقة حسب الله التى كانت تضم فى ذلك الوقت 24 فردًا. ولم تكن مجرد فرقة موسيقية تُقدم عروضًا، بل كانت مدرسة متكاملة، طريقة حياة، مجتمعًا صغيرًا له قواعده الصارمة وروحه الخاصة، يُورِّث الألحان شفويًا دون الحاجة إلى نوتة موسيقية مكتوبة.
«كانت مدرسة يا بني، حياة بجد. ما كانتش نوتة على ورقة بتتقري، كانت نوتة محفورة فى الروح والوجدان. بنتعلم بالسماع، بالتقليد، بالإحساس اللى بيتولد من حب الفن والناس. كل عازف فى الفرقة كان بيحط حتة من روحه فى اللحن اللى بيعزفه، فبيطلع اللحن حي، مش مجرد أصوات ميكانيكية. كانت عيلة كبيرة بجد، كل واحد فينا عارف دوره، وعارف إمتى يدخل بصوته، وإمتى يسكت ليسمع غيره، وإمتى يعلى الصوت عشان الفرحة تكبر وتعلو. الشاويش محمد حسب الله، ومن بعده ابنه على محمد على حسب الله، دول ما كانوش مجرد مؤسسين للفرقة، دول كانوا قادة أوركسترا كبيرة ومتناغمة، بتعزف سيمفونية الحياة المصرية بكل ألوانها، فى كل حارة وبيت، وفى كل قرية ومدينة. الـ 25 قرشًا اللى أخدتها فى أول زفة عزال فى المنيب، دى ما كانتش مجرد فلوس، دى كانت تذكرة دخول لعالم آخر، بداية لرحلة روحانية عميقة مع الفرحة، وللعيش فى قلب هذا الإرث.›حسب الله› لم تكن مجرد فرقة أفراح وموالد.
< شاركتم فى مسلسلات أيقونية كـ ‹ليالى الحلمية› و›زيزينيا›، و›المال والبنون›، وأفلام مؤثرة كـ ‹الباطنية› و›سلام يا صاحبي›. كيف كانت هذه التجربة الفريدة من نوعها، الانتقال من المساحات المفتوحة للشوارع والميادين إلى ‹بلاط السينما› والتلفزيون؟ وهل شعرت بأن عدسة الكاميرا أسرت جزءًا من روح ‹حسب الله› للأبد لتُخلدها، أم أنها قدّمت فى النهاية صورة مُبسطة لا تُعبر عن عمق التراث الحى الذى تحملونه؟
<< «السينما والتلفزيون كانوا محاولة… محاولة يسجلوا ويحتفظوا باللحظة، عشان ما تتنسيش. كانوا بياخدوا مننا الصورة البصرية، واللبس الموحد اللى كان ليه هيبته، والمزيكة اللى بتطرب الأذن وتدخل القلب. الكاميرا كانت بتشوف اللى الناس بتشوفه فى الشارع: الفرحة على الوشوش، الدقة المنتظمة للطبول، الحماس اللى بيشتعل فى العيون. كانت بتلتقط جزءاً من الروح، يمكن الجزء الظاهر منها، لكن الروح كلها، بكل تفاصيلها الدقيقة، بكل عرق العازف، بالزغاريد اللى بتطلع من القلب فى الفرح، بدموع الأولياء اللى كنا بنشوفها فى الموالد… ده كله الكاميرا مهما كانت دقيقة، ما تقدرش تجيبه كله. الكاميرا بتوثق، لكنها لا تُحيي. الإحياء كان بيحصل بينا وبين الجمهور مباشرة. بس الحمد لله، إنهم سجلوا لينا لحظات مهمة، عشان اللى يجى بعد كده يشوف ويقول: هنا كانت ‹حسب الله›، ويسأل عن تاريخها العظيم.»
< تقول إن ‹الدى جي› والفلاشة ومكبرات الصوت الضخمة قضت على الفرقة تدريجيًا. هذا ليس مجرد تحول فى التكنولوجيا المستخدمة فى الاحتفالات، بل هو تحول أعمق فى الذوق العام، وفى طريقة تلقى الفن. هل هذا يعنى أن مصر تفقد شيئًا جوهريًا من هويتها الموسيقية الشعبية الأصيلة؟ وهل ترى أن الأجيال الجديدة قد انفصلت بشكل كبير عن هذا الإرث الذى شكل وعى أجيال سابقة بأكملها؟
<< هو أكتر من فقدان يا بني، هو نسيان مُتعمد أو غير مُتعمد. الـ ‹دى جي› صـــوت جـــــاهز، ما فيهوش تعب، ما فيهوش إحساس، ما فيهوش القصة اللى ورا كل نوتة. الناس بقت عايزة كل حاجة سريعة، من غير مجهود، ‹جاهزة للاستهلاك›. والأجيال الجديدة… إزاى هتعرف قيمة اللى ما عاشتوش؟ إحنا كنا بنقدم فن بيعيش معاك، بيفضل فى الذاكرة، بترتبط بيه بأجمل ذكرياتك. دلوقتي، الأغنية بتطلع النهاردة، وتختفى بكرة، زى الفقاعة. الأزمة مش فى التكنولوجيا، التكنولوجيا ممكن تكون أداة. الأزمة فى إن الروح اختفت. روح المشاركة، روح الفرح الجماعى اللى بيطلع من آلات حقيقية، من نفَس إنسانى حقيقى بيعزف. لما الناس تبطل تطلب ‹حسب الله› بالاسم، ساعتها بس هقول إن مصر فقدت جزءًا كبيرًا من روحها، من تاريخها الفنى اللى كان بيتعزف فى الشوارع مش فى قاعات الحفلات بس.»
< وأنت اليوم، آخر عازف يحمل الراية فى هذه السلالة العريقة، تجلس فى هذا المقهي، ‹قهوة حسب الله›، الذى أصبح أيقونة فى شارع محمد علي، بانتظار ‹الزبائن› الذين ما زالوا يطلبونكم بالاسم، حتى وإن كان أجر الفرقة حاليًا 2000 جنيه للمناسبة. ألا يُشكل هذا الوضع، بالنسبة لأسطورة بحجم ‹حسب الله›، نوعًا من المرارة أو الألم الصامت؟ وهل ما زال هناك أمل حقيقى فى أن ينهض هذا الإرث الفنى العظيم من جديد، ويستعيد بريقه، بعيدًا عن سطوة ‹الدى جي› وصخب العصر الرقمي؟
<< (يمسك الترومبيت بقوة أكبر، وكأنه يستمد منها القوة، وعيناه تُطلقان شرارة تحدٍ لا تخبو): «مرارة؟ (يهز رأسه ببطء، ثم يُخفض رأسه قليلًا وكأنه يتأمل). الألم موجود، لكنه مش مرارة يا بني، هو إحساس بالمسؤولية. أهون عليا أموت وأنا بعزف آخر لحن لـ ‹حسب الله›، ولا إنى أحس بالمرارة دي. أنا باقى هنا، وكل فرد من الخمسة اللى فاضلين، باقيين عشان الاسم ده ما يندفنش. لما الزبون بيطلبنى أنا بالاسم، عزت الفيومي، ده مش عشان بس عزت، ده عشان ‹حسب الله› لسه عايش فى ذاكرته، وفى وجدانه. ده الدليل إن لسه فيه نبض، لسه فيه روح. الـ 2000 جنيه دى مبلغ رمزي، دى مش قيمة تاريخ، ولا قيمة فن عمره أكتر من 160 سنة. بس إحنا بنقبله عشان نكمل، عشان نحافظ على شمعة الفن ده من الانطفاء.. الأمل فى إن فى يوم من الأيام، الأجيال دى اللى لسه بتسمع صوت الـ ‹دى جي› ده، هتحس بحاجة ناقصاها. هتحس إن فى روح غايبة، روح مصرية أصيلة افتقدوها. ولما تحس ده، هتدور على الأصالة، وهترجع لـ ‹حسب الله›. الأمل فى إن الفن الأصيل ده، اللى ما لوش نوتة مكتوبة، بس محفور فى الوجدان الجمعي، هيقدر يرجع يعزف تاني، بصوت أقوى من أى ‹دى جي›. أنا مش بتوقع، أنا مؤمن. فن ‹حسب الله› زى شجرة النخيل، جذورها ضاربة فى الأرض من مئات السنين، ومهما عصفت بها الرياح، أو تلاشت أوراقها، هترجع تطلع تانى وتثمر.»
يسود الصمت قليلًا، لا يُسمع سوى صوت ضجيج الشارع الخافت يأتلف مع حفيف أوراق الزمن. يظل الرجل جالسًا، ممسكًا بترومبيته، وكأنه على أهبة الاستعداد لعزف لحن جديد، لحن يحكى قصة الصمود، قصة «حسب الله» الذى ما زال صوته يتردد فى أروقة الذاكرة المصرية، منتظرًا من يُحيى نغمــــــاته من جــــديد قائلا ســــأموت وأنا أعـــزف لـ «حسب الله».. لأن النغمة الأخيرة لم تُعزف بعد.