المشهد العام يشى بحالة من اللايقين، حيث تعثرت كل محاولات استشراف المستقبل، ينسحب هذا المشهد على جميع دول العالم فى كل الاقاليم، فحالة الضبابية الشديدة تحجب الرؤية عن قادة الفكر ورجال البحوث والدراسات، حتى وصلنا الى حزم من المخرجات المتماثلة تتلخص فى عبارة شديدة الغباء «الشىء الوحيد المؤكد هو أنه لا شىء مؤكد، واللايقين هو الشىء الوحيد اليقينى فى هذا التوقيت»، لذلك عندما تتقابل مع أى شخص سيبادر بسؤالك متى نخرج من هذا الكابوس؟ تسأله عن أى كابوس يسأل فهم كثر؟ يجيبك الحروب والصراعات والكوارث والأعاصير والجفاف والهجرة والتضخم والكساد والبطالة والكراهية وجرائم الحرب الى آخر هذه الملفات التى يقف العالم كله حيالها فى حالة انتظار، انتظار لأشياء غير محددة المعالم وانتظاراً لحلول لن تأتى وانتظار لتغيير لن يحدث وانتظار لأناس لن يعودوا وانتظار لسلام لن يتحقق وانتظار لعدل لن يجىء وانتظاراً لحب ما عاد يزهر وانتظاراً لحالة رضا غادرت بلا عودة وانتظار ما لا يجب انتظاره لأنه ببساطة غير موجود !! الانتظار يؤلمنى دائماً، ويزعج القريبين منى أحياناً، فالعجلة والاستعجال والاندفاع هى من مظاهر الرغبة الجارفة فى تحقيق الأحلام وتنفيذ الوعود الجمعية.
أشعر أن «الانتظار الهادئ» رفاهية لا يتحملها المشهد العام الآن، فالتحديات الضخمة تحتاج إلى أعمال عاجلة ودقيقة وعظيمة، النجاح لا يذهب لأحد ويطرق بابه منتظراً الدخول، المبادرون هم الرابحون دائماً، أما المنتظرون فسيستمرون فى ساحات الانتظار يتسكعون ويتسولون، والفرص نادرة ولن يقتنصها إلا هؤلاء النابهون المنتبهون الذين ينامون وإحدى أعينهم مفتوحة دائماً.
إن «نادى المنتظرين» لن يخرج منه أبطال يرفعون الرايات، فمن يَركَن يُركَن، ومن ينتظر لن ينتصر. ومن الجانب الآخر دائماً ما أستشعر أن وريقات العمر تتهاوى تباعاً ونحن فى غفلة معرضين، فهل خُلقنا فقط لنمارس طقوس البشر العادية ونرحل؟ وهل هذه الحالة أو السلوك أو الطبيعة الشخصية ضد فضائل «الصبر» و«التوكل» و«الإيمان بالقدر» و«عدم العجلة» و«الروية»؟ فى تقديرى أننى أؤمن إيماناً مطلقاً بهذه الفضائل وأمارسها يقيناً، لكننى أنظر إلى الأمر من زوايا أخرى، أهمها شيوع فكر «التواكل» والخلط المدمر بينه وبين «التوكل» ، انتشار سلوكيات تقتل الأحلام وتضرب معانى دافع الإنجاز فى الصميم. أنا أكره الانتظار وأكره سلوكيات المنتظرين الذين يمارسون أسوأ الطقوس البشرية فى الانتظار إلى ما لا نهاية دون أن يكون لهم فعل أو مشاركة فى تحقيق ما ينتظرونه. عندما أستمع إلى أحدهم وهو يقول «ربنا يسهل» أو «ربنا يرزق» أو «منتظرين الفرج»، فى البداية كنت أشعر بمسحة إيمانية لدى هؤلاء المتوكلين المؤمنين الموصولين بربهم، لكن ومع الاطلاع على سلوكيات ومساهمات هؤلاء وأعمالهم وإنجازاتهم وطريقة إدارتهم لأمورهم، تتبدد مدلولات نظرتى الأولى لهؤلاء، يجلس أحدهم بلا تفكير أو تغيير أو تدبير، ولا يحرك ساكناً، ويرفع أكف الضراعة ويطلق العبارات التى لا يحب التفكير فيها، فأنَّى يستجاب له!؟ المجتمع بثقافاته المتراكمة وزخمه وإرهاصاته الحالية فقد أهم ملامحه الحضارية، وهى الحيوية والحركة الدءوبة والقدرة على الإنجاز من رحم الإنجاز، المجتمع الذى انتشرت فيه أمثال شعبية من عيّنة «اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب»، «على قد لحافك مد رجليك»، «العين ما تعلاش على الحاجب»، «الميّه ماتجريش فى العالى» ، «يا خبر بفلوس بكرة يبقى ببلاش»، كل هذه الأمثال تعكس طريقة تفكير وسلوكيات مجتمع مترسخة من قاعدته إلى قمته، الجميع ينتظر وفقط! ربما لا يعرف الكثيرون ماذا ولماذا ينتظرون؟ فقط يفعلون، مثلما يمر أحدهم ويجد طابوراً طويلاً فيقرر دون أن يسأل أن يقف فى هذا الطابور وينتظر وينتظر ويدعو ربه ويرفع أكف الضراعة ويقول «يا رب سهّل»، رغم أنه لا يعرف لماذا وقف هؤلاء فى هذا الطابور ولم يسأل أيضاً.
إنها ثقافة انتظار ما لن يأتى إطلاقاً، كمن تنتظر عودة ضناها الذى استشهد أو توفاه الله بعدما غلبها حنين الأم وحرق قلبها الفراق وتأثرت حالتها النفسية، وخير مثال على هؤلاء هم أولئك الذين يرددون أن «مرسى راجع»، والشيعة الذين ينتظرون ظهور المهدى المنتظر.. كل هؤلاء يجمعهم الاستسلام لممارسة رذيلة الانتظار الملعون إلى ما لا نهاية وإلى ما لن يتحقق.
فقط يمارس هؤلاء طقوساً تريحهم نفسياً «بأنهم عملوا اللى عليهم» وينتظرون أن تمطر السماء ذهباً أو فضة رغم إيمانهم بأنها لم ولن تفعل.
أنا أكره الانتظار، وأبحث عن ضرب مبادئه وثوابته فى مقتل، لذلك أصرخ وأقول: لن أنتظر كثيراً، سأعمل على تغيير مسببات الانتظار، فإرادتى المتفائلة قطعاً ستتغلب على نوازع سلبية تدعو إلى الإحباط، أنظر دوماً إلى استعجال الرئيس فى إنجاز المشروعات فى أسرع وقت ممكن بعيداً عن الأطر الزمنية المتعارف عليها، إنه يسابق الزمن، فليست لدينا بحبوحة من الوقت ننفقها فى تدليل الآخرين، ليست لدينا رفاهية الوقت، ومن ثم لا مكان للانتظار حتى ولو كان مبرراً. غيّروا أنماط سلوككم لنتحول إلى مجتمع سليم معافى.