أخونا فى الله، إبراهام ماسلو، عالم نفس أمريكى يهودى من أصل روسي، وضع نظرية مشهورة حول احتياجات الإنسان ودوافعه نحو الإنجاز والتميز. كتب عنها عام 1943، ونالت استحسان معظم الدوائر العلمية، إذ يرى ماسلو أن احتياجات الإنسان تتدرج على مراحل لابد أن تلبى بالتسلسل قبل الانتقال الى مرحلة تالية .. فتأتى الاحتياجات الفسيولوجية مثل الطعام والشراب والتنفس والنوم والزواج فى مقدمة الاحتياجات تليها ضرورة الشعور بالأمان، بأن يعيش الإنسان مطمئناً على نفسه وأسرته، فى مكان يحميه وسقف يظله.ثم يأتى الاحتياج الثالث: وهو الانتماء إلى أسرة، أو قبيلة، أو جماعة، أو وطن، وهو ما سماه «الأمن الاجتماعي».
تذكرت هذه النظرية وأنا أتمعن فى معاناة الشعب الفلسطينى فى غزة. أناس يعيشون فى جحيم لا مثيل له فى تاريخ البشرية.
العالم كله يشاهد هذه الكارثة.. وربما يصرخ ويتظاهر ويجعجع، لكن لا أحد يحرك ساكنا.وحسب نظرية ماسلو، فإن شعبا مثل هذا.. لا يجد احتياجاته الفسيولوجية، ولا يشعر بالأمان، لن يكون لديه مجال للتفكير فى الانتماء، ولن يكون هناك رابط بينه وبين جماعة أو وطن، لكن شعب غزة أثبت العكس.لقد أثبت فشل نظرية ماسلو.فرغم الحصار والقتل والدمار، مازالوا متماسكين، متجذرين فى أرضهم، متمسكين بوطنهم.
العدو الغادر ومن وراءه.. ظنوا أن شعب غزة سيتخلى عن أرضه ودياره ومزارعه ووطنه.. من أجل ماء وطعام وحرية.. كما تقول نظرية ماسلو.. ولكنهم لا يعرفون قيمة الأرض ولا معنى الوطن.. فهم شرذمة من المرتزقة جاءوا من كل أصقاع الأرض.. ليس لديهم أى ذاكرة حضارية.. فلا جذور لهم تشدهم اليها.. ولا وطن لهم يحنو عليهم ويحتوى آلامهم وعذابهم عند الشدة.. لذلك عندما شعروا بالخطر يوما ما.. هربوا مذعورين الى المطارات فارين من الأرض التى لاينتمون.
كلهم لديهم جنسية أخري.. فهم دائما فى هلع من لحظة زوال بلدهم الزائف.. ولقد كانت أول مافعلته القيادة السياسية فى إسرائيل فى بداية الحرب مع إيران.. أنهم أغلقوا المطارات.. ليس من أجل الأمن.. ولكن لعلمهم أن الكثير من شعبهم سيهرب خارج البلاد.. أما الشعب الأصيل فى غزة والذى يتحمل الكثير.. والكثير جدا.. يقتل ويذبح وتهدم دياره ومزارعه وتدمر أرضه ولكنه متشبس بوطنه وجذوره.. وستظل أرضهم التى روتها دماء أطفالهم .. ويخرج من صلبها من يزيح هذه الغمة ويعيد الكرامة ويعيد الوطن.
وتحياتى للأخ ماسلو ولنظريته والذى أعتقد أنه لم يتخيل يوما أن هناك من البشر من يقدم الوطن على الخبز، والكرامة على الراحة، والانتماء على البقاء.
وفى النهاية.. تنتصر نظرية أخرى ألا وهى نظرية الجاذبية الأرضية لإسحق نيوتن، التى تقول إن الأرض تشد إليها كل من ينتمى إليها.