عباقرة ماسبيرو.. اختصروا ثقافة العالم فى الميكروفون





أهل الراديو فيهم أصالة وعندهم ثقة كاملة أن ما تملكه ماسبيرو فى مكتبتها يكفى للأخذ بأيدى الملايين إلى بحر الثقافة الواسع، وكم من الأجيال القديمة التى التصقت بالإذاعة تكلمك فى كل شيء وهى لم تفك الخط لأن الميكروفون أخذ بأيديهم ومشاعرهم وعقولهم إلى التاريخ والجغرافيا والحب والخيال وأمهات الكتب، ألم يسمع أبناء الجيل الحالى أن إذاعة مصر قدمت كتاب الأغانى فى حلقات كان يكتبها الشاعر الكبير عبدالفتاح مصطفي، وقدمت ألف ليلة وليلة بقلم طاهر أبوفاشا وقدمت روائع المسرح العالمى وبرامج خاصة عن كبار كتاب ومفكرى العالم.
العواجيز من أمثالنا بقدر ما فرحوا عندما أطلقت الإعلامية نادية مبروك إذاعة ماسبيرو زمان، بقدر ما غضبوا بعد حجبها لأسباب غير مفهومة.. وأسعدهم بالفعل أن يعيدها الكاتب أحمد المسلمانى كبير العائلة الإعلامية وأطلقها على نفس موجة البرنامج الثانى مدرسة الذوق الرفيع فى الفكر والأدب والفلسفة والفن والموسيقى من الثالثة فجراً إلى الثالثة عصراً، أى أنه اقتسم أجزاء من بقايا الليلة مع حتة من النهار لكى ينطلق البرنامج الثقافى فى النصف الآخر من النهار إلى الثالثة وهكذا.. لكن السميعة عندهم من الطموح مع المسلمانى ما هو أكبر، بحيث يتم تخصيص موجة قوية لأن الأغانى والبرامج الخفيفة متوفرة فى أغلب المحطات العامة والخاصة، لكن المواد الثقافية والفنية والدرامية بضاعة لن تجدها إلا فى بحر ماسبيرو العميق.
والله زمان
تجربة إطلاق القناة التليفزيونية «ماسبيرو زمان»، يمكنها أن تتحدث عن نفسها، وأنا أعرف الكثير من البيوت لا تعرف الطريق إلى الريموت، لأنها ارتضت بهذه المحطة لكبار وصغار العائلة، فيها أمان اجتماعى وأخلاقى بمواد مضمونة وأصلية، وفيها روائع زمن فات على الملايين أن تتابعها فيما مضي، وهذا الكلام ينعكس على ماسبيرو الإذاعية أو محطة الدراما، وأتمنى أن تتواجد عليها البرامج والمنوعات كما كان يحدث سابقاً، ولكن المحطة صعبة المنال على أجهزة الراديو العادية وإذا ما وصلنا إليها على الموبايل فقدنا الكثير من متعة الإذاعة، ولا أعرف مدى إمكانية ذلك هندسياً، لكننى أتمنى مع المسلمانى أن يدرس الأمر جيداً، وليس معنى ذلك أننا ضد الجديد كله، بدليل أن الكثير من الشباب يستمعون إلى الراديو سواء على شاشة التليفزيون عبر القمر الصناعى أو على الموبايل.. وهناك من يثبت المؤشر على إذاعة القرآن الكريم، بل ويخصص لها جهازاً منفرداً كنوع من البركة التى تحل على البيوت وكتاب الله يتلى فيها آناء الليل وأطراف النهار، وأصحاب المزاج الرائق يتابعون محطة الأغانى فقط لا غير، يعرفون مواعيد ثومة وحليم وعبدالوهاب ونجاة وشادية وقنديل وكارم ومحرم ووردة وفايزة وفريد.. ياه على الجمال والروعة.
الإذاعة المصرية فى عام 1957 رأت أن تمضى على نهج إذاعة BBC الإنجليزية، وعندها برنامج ثقافى وفكرى وفنى بعيداً عن الأخبار والأغاني، وقام الإعلامى الكبير سعد لبيب بإطلاق هذه الإذاعة بإرسال لمدة ٣ ساعات زادت بعد ذلك لكى تصل إلى 12، وميزة الراديو أنك تسمعه حتى تحت اللحاف فى الشتاء القارس ودون كهرباء إن اضطرت الظروف «الترانزستور» يكفي، فهل يعلم هواة المسرح أن هذه المحطة قدمت ما يقارب الألف عمل من كلاسيكيات المسرح المصرى والعربى والعالمي، وأخرجها العمالقة محمود مرسى وبهاء طاهر والشريف خاطر وهلال أبوعامر ومحمد توفيق وأحمد سليم ورضا الجابر ورجب الحلواني، ومعظمهم نجوم مصر يفخرون بأنهم شاركوا فى هذه النهضة الفنية الهائلة، وكانت تنقل مناقشات رسائل الماجستير والدكتوراة، ولأن بضاعة التسلية حاليا متوفرة إلى حد التخمة يبحث البعض من أصحاب التميز عن هذه المحطات، وعندما تضاف إليها المسلسلات التى أخرجها كبار مخرجى دراما الميكروفون يوسف الحطاب ومحمد علوان وبابا شارو ومصطفى أبوحطب وفتح الله الصفتى ومحمد مشعل ومحمود شركس وحسين عثمان ويوسف حجازى وعادل شحاتة.
يكفى المستمع على سبيل المثال أن يتابع حصاد 17 سنة من روائع المسلسل الإذاعى «أحسن القصص» الذى كتبه عميد الدراما الدينية محمد على ماهر، وتقريباً لخص من خلال سيرة الإسلام وقصص الأنبياء والكعبة المشرفة وبئر زمزم وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة والتابعين.
مدرسة الإذاعة
كل كاتب درامى تعامل مع ميكروفون الإذاعة فى مسلسلاتها، تجد حواره فى الفيلم أو المسرحية أو المسلسل التليفزيونى له مذاقه الخاص وتميزه، لأن الكلمة عنده تساوى صورة باستخدام الصوت فقط، وأبرز هؤلاء وحيد حامد وقد دخل إلى السينما من باب الإذاعة، وكثير من أعمال السينما قدمها الميكروفون أولاً، وحققت شهرتها معه، وكانت سميحة أيوب تحكى كيف أن الشارع المصرى عند الخامسة والربع موعد إذاعة المسلسل الإذاعى فى البرنامج العام كانت تتوقف فيه الحركة تماماً، وهى تنطق بعنوان مسلسلها الشهير «سمارة» الذى قدمته تحية كاريوكا بعد ذلك على الشاشة الكبيرة، فقد كانت أجهزة الراديو لا تتوفر فى القرى إلا فى دوار العمدة وبيوت الأثرياء.. أما فى المدن فلا يقدر عليها إلا الموظف أو الأفندي.. والغلبان يستمع إلى راديو المقهي، خاصة فى الفترة التى سبقت ظهور التليفزيون عام 1960 ووقتها قامت الحكومة بعمل أكشاك فى الحدائق العامة بها تليفزيون ٤1 بوصة أبيض وأسود يعرض مسلسلات «هارب من الأيام، الساقية، الرحيل، القط الأسود».
لكن الإذاعة تميزت بأنها أسهل وأيسر وأكثر خيالاً.. الميكروفون يأخذك إلى الماضى السحيق ثم يعود بك فى ثوان معدودة إلى العصر الحالي، وقد يسافر بك مع بساط الأثير إلى أقصى أطراف الأرض وأنت على مقعدك أو على المصطبة.
والدراما كما قلت فى كتابى «فن المسلسل الإذاعي» هى مدرسة الخيال، والممثل يقف أمام الميكروفون والنص فى يده يقرأ ويتفاعل والمخرج فى غرفة الكنترول يتابع مع مهندس الصوت ويستخدم من المؤثرات ما يجعل المستمع يعيش الحالة الدرامية «أبواب، خطوات، أصوات، تليفونات، موسيقي، إلخ»، وتنافس كبار مخرجى الدراما فى تقديم الأفضل، حتى أن العبقرى محمد علوان قدم مسلسل «أنف وثلاث عيون» دون موسيقى تصويرية واعتمد على الصمت فقط، وسافر إلى عمر الشريف فى أوروبا وسجل معه، ثم جاء إلى مصر لكى يسجل مسامع باقى ممثلات العمل «سعاد حسني، ماجدة، زبيدة ثروت»، ثم جمع كل هذا فى المونتاج بطريقة احترافية ولم يشعر المستمع بأن كل ممثل سجل دوره بعيداً عن الآخرين، وكان من روائع الدراما.. وماسبيرو تملك الكثير من المعلوم والمجهول، وأنا أعرف ذلك جيداً، بحكم اننى من أهل الراديو.
شكراً للمسلماني.. وننتظر المزيد.