يسعى الرئيس الأمريكى ترامب، منذ بداية فترته الرئاسية الجديدة فى العشرين من يناير الماضى إلى أن يجمع فى يده خيوط الصراعات والتحديات الأكثر سخونة فى العالم، وأن يدرس العلاقات التبادلية بينها من أجل التوصل إلى الاستفادة من هذه العلاقات فى تحديد متى وكيف يمكن السيطرة على هذه الصراعات والتحديات وإدارتها بالتهدئة هنا، والتهديد هناك، والتصعيد، إذا احتاج الأمر، بسلاح العقوبات أو بالحرب.
يفعل الرئيس ترامب ذلك، فى إطار الصورة التى رسمها لنفسه وقدمها للأمريكيين وللعالم خلال حملته الانتخابية بأنه رجل سلام، جاء لينهى الحروب والنزاعات القائمة حول العالم، والتى ما كان لها أن تحدث ـ على حد قوله ـ لو كان موجوداً على رأس الولايات المتحدة.. وأن السلام الذى يسعى إليه، هو السلام من خلال القوة.
ووضع الرئيس ترامب منهجه هذا فى التعامل مع الصراعات والتحديات الإقليمية والعالمية تحت شعاره المفضل وهو «أن يجعل أمريكا عظيمة مجدداً».
ومع أنه من غير الموضوعى الحكم على أداء الرئيس الأمريكى فى هذا المسار وما أنجزه فيه وهو لم يكمل بعد ستة شهور فى البيت الأبيض، كما أنه لا توجد عصا سحرية لإنهاء صراعات مزمنة وتحديات مستحدثة فى مثل هذه الفترة القصيرة ـ رغم أن الرئيس ترامب هو من أكد أنه يملك هذه العصا لإنهاء بعض هذه الصراعات خلال أربع وعشرين ساعة ـ إلا أنه يمكن إبداء بعض الملاحظات على هذا الأداء باعتباره مؤشراً على ما يحمله المستقبل.
الملاحظة الأولي، أن الرئيس الأمريكى يتعامل مع هذه الصراعات والتحديات ـ حتى الآن ـ من خلال ما هو ظاهر منها فى الحال ـ أى الأمر الواقع ـ وهو ما يعنى أنه يتعامل مع القشور، ويتجاهل الجذور التى نشأت منها هذه الصراعات والتحديات وتطورت على مدى طويل أو قصير.
والرئيس ترامب يفعل ذلك مدفوعاً بعدة عوامل، منها عدم إلمامه بهذه الجذور، وعدم رغبته فى إغراق نفسه فى تاريخ كل مشكلة وأسبابها، وهذا جزء من تركيبته الشخصية والعقلية، ثم عامل الوقت، فهو يريد إنهاء هذه الصراعات خلال فترة رئاسته الحالية، وبأى صورة.
الملاحظة الثانية، أنه لا يهمه كثيراً أو قليلاً أن تكون التسويات التى ينجح فى التوصل إليها للصراعات والتحديات مؤقتة أو دائمة.. أو قائمة على قواعد القانون الدولى والشرعية الدولية، أو مناقضة لهذه القواعد.. فى ظل النهج الأمريكى المستمر منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر قبل أربع وعشرين سنة، وهو إنشاء «شرعية أمريكية» موازية للشرعية الدولية، وتحويل الكونجرس الأمريكى إلى مجلس دولى بديلاً لمؤسسات الأمم المتحدة، فى إصدار القرارات وفرضها على المجتمع الدولي.
وبالتالي، أصبحت هذه القرارات تصدر وفقاً لتركيبة الكونجرس والقوى الموجهة له والأكثر تأثيراً فى المجتمع الأمريكي، كما أصبح مجلس الأمن الدولي، الذى من المفترض أنه قمة النظام العالمى ومناط الشرعية الدولية معطلاً وعاجزاً عن تحقيق التوازن الدولى والإنصاف لأصحاب الحقوق المشروعة.
الملاحظة الثالثة، أن نظرة الرئيس ترامب للعالم، نظرة فوقية، فهو لا يرى العالم فى صورته الطبيعية والتاريخية كدول مستقلة ذات سيادة، وشعوب تقف على قدم المساواة مع الشعب الأمريكى فى حقها فى الاحترام وحريتها فى الاختيار، بل يرى العالم، بدوله وشعوبه وقادته، مجرد رعايا عليهم الإنصات لأمريكا وحدها والالتزام الطوعى أو الجبرى لا فرق عنده ـ بكل ما تأمر به.
وليس لدى الرئيس ترامب فى ذلك استثناء، لا فرق لديه بين حلفاء وأصدقاء، أو خصوم وأعداء.. فقط الاستثناء الوحيد لديه هو.. إسرائيل، وهو ليس استثناءً طبيعياً، بل «سوبر»، لدرجة أنه استجاب لرغبة نتنياهو فى ضرب المنشآت النووية الإيرانية، بينما سمح لنتنياهو أن يعتذر له عن عدم استعداده لقبول طلبه منه وقف إطلاق النار مع إيران، قبل أن يقوم بضربة أخيرة لإيران، لتكون إسرائيل هى من تأخذ قرار إنهاء الحرب.
الملاحظة الرابعة، أن رؤية الرئيس ترامب ومفهومه لعظمة أمريكا التى تعهد باستعادتها مجدداً، رؤية ملتبسة، يتقدم فيها «العنصر المادي» المتمثل فى تحصيل أضخم كمية من مليارات الدولارات بأى وسيلة من دول العالم وضخها فى الاقتصاد الأمريكي، على العنصر «القيمي» المتعلق بالديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان، وهى القيم التى تستند إليها الحضارة الغربية الممثلة فى الولايات المتحدة وأوروبا، والتى طالما حملت الولايات المتحدة تاجها على رأسها وشكلت من خلالها صورتها الذهنية المثالية لدى الشعوب بصرف النظر عن مصداقيتها.
هذه الرؤية الملتبسة، تفقد الولايات المتحدة، على المدى البعيد «قوتها الناعمة» التى طالما اجتذبت إليها أحلام الشعوب الساعية للتغيير، وصارت تقدمها الآن، ليس فقط من خلال قوتها الخشنة، بل تستعيد بها صورة المستعمر القديم الذى كان يسعى فقط للسيطرة على ثروات الشعوب ونهبها.
الملاحظة الخامسة، أن الرئيس الأمريكى لا يكاد يفرق بين عظمة أمريكا، وبين عظمته الشخصية.. حتى بات ينسى ذكر اسم بلاده وهو يتحدث متفاخراً بإنجازاته، يكرر كلمة «أنا».. و»لولاي» أكثر مما يذكر أمريكا.. فى إشارة لا تخطئها كل عين، إلا عينه هو نفسه، إلى أنه يسعى فى الحقيقة إلى بناء «مجد شخصي» لنفسه أكثر مما يسعى لاستعادة عظمة أمريكا.. أو هو يعتبر أن أمريكا هى ترامب.
هو الذى لو كان موجوداً فى البيت الأبيض ما حدث طوفان الأقصى فى غزة، وما أقدمت روسيا على حرب أوكرانيا، ولما استطاعت الصين التقدم على أمريكا، وهو الذى أشار إلى الهند وباكستان بوقف اندلاع حرب وشيكة بينهما فخضعت الدولتان لإشارته ـ رغم نفى الدولتين لذلك وتأكيدهما أن وزيرى دفاع الدولتين هما من اتفقا على منع التصعيد ـ إلى آخره.
الملاحظة الأخيرة.. هى غياب الحس الإنسانى فى أداء الرئيس ترامب وتصرفاته الشخصية، ولو ظهر هذا الحس، فإنه يظهر فى صورة تمييزية، فأرواح البشر عنده درجات، على رأسها بالطبع أرواح الأمريكيين والإسرائيليين.. ولا أهمية عنده لطفل يتم قتله بالرصاص وهو يمسك فى يده بإناء فارغ كان يسعى للحصول به على بعض الطعام.
هل رأى أحدنا مرة، ولو بالصدفة، صورة لترامب يداعب طفلاً؟!