بينما نكون حريصين جميعا على متابعة أرصدة المخزون الإستراتيجى من الحبوب والطاقة والمياه والتى تمثل ضرورات حياتية لايمكن الاستغناء عنها لعموم الناس وخاصتهم على السواء، لكننا لا نهتم إطلاقاً بأرصدة مخزونات أخرى أراها أهم وأخطر كثيرا من تلك التى ذكرناها، هذه الأرصدة تقترب من النضوب أو النفاد وهناك أصناف تقترب من الصفر، وحتى لا استنزف مساحة المقال فى مقدمات وتشبيهات وتلميحات، أرى الدخول فى الموضوع بلا مواربة، فقطعا سينالنى موجة من السخرية والقدح وربما السباب جراء الحديث عن هذه الزاوية، فقد تحدثت وكتبت من قبل كثيرا وقلت «بل العجز فى مخزون الرضا» فعندما نتابع تصريحات السادة المسئولين عن كفاية المخزون الإستراتيجى من السلع الأساسية أعلم أن الهدف من هذه التصريحات الصحيحة والدقيقة طمأنة الناس على معايشهم، لكن الغريب والعجيب أن الناس وكأنها تبحث عن القلق أكثر من بحثها عن الاطمئنان، ينحازون غالبا إلى عالم الشكوك والظنون ويبتعدون دون مبرر عن الحقيقة واليقين، فلماذا يميل الناس هذا المنحي؟ بيد أن أرقام مخزونات الحبوب والزيوت والسكر ومصادر الطاقة لا تنجح وحدها فى إشباع غريزة الإنسان الذى أدمن القلق المجاني، لذلك أرى أن المخزون الأهم والذى يجب أن نبحث عن الاكتفاء الذاتى منه هو مخزون «الرضا» لكن الرضا لا يمكن استيراده من الخارج ولا يباع فى السوبر ماركت فهو يُنتج فقط من داخل النفس، فالرضا يخلق الشغف والشغف يزيد إنتاج الرضا أتذكر ونحن صغار نفرح لاتفه الأسباب، لبس العيد وزى المدرسة المدرسة وحلاوة المولد وخروف العيد وزينة رمضان والعدية واستلام كتب المدرسة والكراسات والكشاكيل والأقلام وحصة الألعاب وجرس الفسحة وطابور الصباح وتحية العلم والإذاعة المدرسية ومجلة الحائط وحصة الموسيقى ونتائج أعمال السنة ومسابقات أوائل الطلبة وخطبة الجمعة والكتّاب ولمة العيلة حول الطبلية الكبيرة وزيارات الأقارب من الأهل والخلان ولعب الكرة الشراب والاستغماية وباقى الألعاب التى تعتمد على الكر والفر والمكر والخداع، كم كنا سعداء وراضين وشغوفين لكل هذا، لم يكن لدينا كل هذا الصخب من منصات التواصل الاجتماعى المفخخة ولم يكن لدينا كل هذه المواقع والفضائيات والصحف والبرامج والمسلسلات، لم يكن لدينا كل هذه الخيارات من الأطعمة والمشروبات والملابس والبراندات والماركات والموديلات، لم يكن لدينا إلا القليل وكنا سعداء للغاية ولم نفقد القدرة على الحلم ولم تغادرنا الابتسامات ولا الضحكات فى كل الظروف، فماذا جرى للناس وماذا جرى للأجيال الجديدة من الأبناء والأحفاد.
إنهم لا يسعدون ولا يندهشون ولا يبتهجون مهما كانت المغريات، لقد فقد هذا الجيل القدرة على الشغف ومن ثم لم يعد قادرا على الشعور بالامتنان للآخرين، لذلك أشعر بخطر مجتمعى كبير جراء هذه التغيرات الحادة فى المزاج العام للأجيال الجديدة، فما كان يسعدنا ونتمناه ونبحث عنه وننتظره ونفرح لحصوله لم يعد كذلك بالنسبة لهم الآن، اختفت ابتسامة الرضا من على الوجوه وحل مكانها العبوس وعدم الاكتراث واللا مبالاة، اختفت كلمات وعبارات الشكر والامتنان والثناء إلا ما ندر وبشكل بروتوكولى عقيم لا يشبع روحا تواقة إلى هذه القيم.. القضية تبدو وكأنها بكاء على اللبن المسكوب وحنين إلى الماضى «النوستالجيا» لكنها ليست كذلك.