لم تكن مصداقية الولايات المتحدة يومًا ثابتة، لكن السنوات الأخيرة – وتحديدًا ما كشفته الحرب الإيرانية الإسرائيلية الجارية – أكدت أن واشنطن لم تعد فقط تفتقد للثقة، بل تمارس الخداع العلنى وتفقد ما تبقى من شرعيتها الأخلاقية على الساحة الدولية. فالإدارة الأمريكية لم تعد تحترف السياسة بقدر ما باتت تُتقن فنّ الخداع الاستراتيجى، وتوزيع الأكاذيب بين البيت الأبيض، والبنتاغون، ووكالات الاستخبارات، بطريقة لا تترك للعالم سوى الانبهار بقدرتهم على الكذب، والاشمئزاز من تملقهم باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
فى الأيام التى سبقت الضربة الإسرائيلية الأولى لإيران، ظهر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مدّعيًا رفضه لأى هجوم مسلح من جانب إسرائيل، مؤكدًا ضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات. وفى ذات التوقيت، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو يتحدث عن انشغاله بتحضيرات حفل زفاف نجله، فى مسرحية تضليلية مشتركة. النتيجة؟ ضربة مباغتة طالت قيادات من الحرس الثورى الإيرانى، وعدد من علماء الطاقة النووية. المفاجأة تحققت، والخداع نجح، لكن على حساب الحقيقة والشفافية، بل وعلى حساب القانون الدولى نفسه.
ولم يكن ذلك المشهد الأخير فى مسلسل الأكاذيب. ففى اليوم التالى، خرجت رئيسة مجتمع الاستخبارات الأمريكى لتعلن أن إيران تحتاج ثلاث سنوات لصنع قنبلة نووية. وبصورة درامية، سارع ترامب إلى نفى صحة تلك التصريحات، قائلًا إنها «معلومات كاذبة»، قبل أن يطرح مهلة أسبوعين لطهران من أجل التفاوض، وهى مهلة خالية من المنطق ما دامت المنشآت الإيرانية قد ضُربت بالفعل. فى تلك الأثناء، خرج مسئول «صهيو-أمريكى» ليؤكد أن الضربات أخّرت البرنامج النووى الإيرانى ثلاث سنوات، مما يكشف عن تنسيق استخباراتى أمريكي-إسرائيلى عميق سبق الضربة، ويكذب كل ما قالته واشنطن سابقًا.
حتى اللحظة التى تم فيها رصد قاذفات أمريكية تتزود بالوقود فى الجو، سارعت القيادة المركزية الأمريكية للنفى.
ماذا بعد كل هذا؟
الواضح أن إيران امتصت الضربة الأولى، وصمتت. بل إن التلفزيون الإيرانى قال إن المواد الهامة من المنشآت النووية تم نقلها قبل أيام، وهى محاولة متأخرة لتقليل وقع الهجوم إعلاميًا. لكن كل المؤشرات تقول إن طهران باتت فى موقف دفاعى، لا تملك فيه سوى الحفاظ على النظام، حتى ولو على حساب الكرامة الاستراتيجية.
فى المقابل، أفادت شبكة CNN بأن واشنطن أبلغت طهران عبر قنوات دبلوماسية بأنها لا تنوى تنفيذ ضربات جديدة، وأنها لا تستهدف إسقاط النظام. لكنها تصريحات خالية من أى مصداقية، إذ إن التجربة تُخبرنا أن كل نفى أمريكى هو مقدمة لفعل نقيضه.
فما الذى يمنع أن تكون هذه الهدنة الحالية مجرّد خداع جديد؟
الإجابة لا شىء. بل العكس، فكل المعطيات تشير إلى أن واشنطن تهيئ المسرح الداخلى فى إيران لانفجار شعبى، تغذيه الدعاية الغربية، والواقع الاقتصادى المتدهور. إذا اقتنع الشعب الإيرانى بأن البرنامج النووى تم تدميره بهذه البساطة، فسيطرح السؤال القاتل: لماذا تحملنا كل هذه المعاناة إذًا؟
فى النهاية، لا حرب عالمية فى الأفق، ولا نوايا لاحتلال طهران. ما يحدث هو إعادة رسم للشرق الأوسط على أساس صفقات سرية، تظهر فيها واشنطن كـ»المُخلّص» بينما هى فى الحقيقة المتورط الأول. إنها لحظة سقوط كبرى لقناع أمريكا، الذى طالما تخفى خلف شعارات العدالة وحقوق الإنسان، بينما هو ملوث بالكذب، والخداع، وازدواجية المعايير.