لم يكن القصد من الحديث عن الأمن الثقافى هو المزج المباشر بين مفردتى الأمن والثقافة وما لكل منهما من حزمة دلالات معنية بالجوهر وطبيعة ما صدق وحقيقة ما دل، فالحديث هنا أبعد ما يكون عن علاقة الثقافة بالأمن، وإن كانت هناك أدبيات أكاديمية غزيرة فى ذلك المنحى وذات أهمية، وايضا تزداد المكتبات ثراء بالعطاءات الفكرية الرصينة فى تلك العلاقة، إنما القصد هنا وللتقريب كما علمتنا النصوص السماوية المقدسة بتقريب التشبيه لإيضاح المعنى وكشف ما التبس عليه من متشابهات كما فى «.. ضرب الله مثلاً» وكذلك كان المثل الأقرب هنا هو التقريب لمعنى «الأمن الغذائي» فيتضح بجلاء عبر الممارسات الحياتية والعلمية لهذا الاصطلاح أن علاقة الأمن بالغذاء، تعنى كفاءة القدرة على تلبية وتأمين احتياجات المواطن وحمايته من العوز والنقصان والشح، وهو المعنى ذاته الذى خلص إليه مؤتمر القمة العالمى للأغذية، الذى عقد فى عام 1996، من حيث نحت مفهوم أو تقديم تعريف الأمن الغذائي، فانتهى المؤتمر إلى «أنه وضع يتحقق عندما يتمتع جميع الناس، فى جميع الأوقات بإمكانية الحصول المادى والاقتصادى على أغذية كافية وسليمة ومغذية تلبى احتياجاتهم الغذائية وأفضليتهم الغذائية من أجل حياة نشطة وصحية».
ويسير الحديث موازياً لتقريب مفاهيم تالية كما «الأمن الاجتماعي» وقد سردت لهذا الاصطلاح أدبيات ذات عمق علمى وجهد بحثى مضني، حتى بات المفهوم عنه متاحاً ومستساغاً، وراح عبدالرحمن بن خلدون إلى التعبير الأكثر قرباً من الفهم والإدراك المعايش، وتحدث عن طمأنينة الفرد والمجتمع والشعور بالأمن على الروح والممتلكات والحقوق والواجبات، وجميع ما يصون بناء المجتمع ووحدته وارتقاءه وتحضره هو فى سبيل مفهوم الأمن الاجتماعي.
ويستوى الأمران السابقان مع مفهومى الأمن السياسى والأمن الاقتصادي، وأجد القلم والقلب يسيران مع العقل نحو ترتيل «..الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» (قريش الآية 3 – 4).
وربما نستند هنا على نظرية نفسية قدمها العالم أبراهام ماسلو «نظرية الدفاع البشرى عام 1943، وتلا هذا التاريخ بعشر سنوات تقريباً تفنيد لتلك النظرية وشرح تفصيلى لنظريته بالكامل فى كتابه «الدافع والشخصية» عام 1954 وهو ما اتفق على تسميته «هرم ماسلو للاحتياجات» ورغم ما تبع تلك النظرية من نقد نحو كمية الاحتياجات ومداياتها الزمنية وغير ذلك مثل اعادة ترتيب سلم احتياجات الإنسان، إلا أننى لا أبحث هنا عن أوجه الاختلاف أو التقصير فى مستويات احتياجات الإنسان، كون اننى أبحث عن طرائق اتبعها الانسان ليمهد دروب حياته نحو التحضر والارتقاء، ولا أذهب صوب نظرية الشنوء والارتقاء التى قرأتها فى كتاب «أصل الأنواع» لتشارلز روبرت داروين، الذى أسرع ونشره عند علمه بمنافسة فكرية من جانب الفرد راسل والس أو المعروف بوالد الجغرافية الحيوية فى نهايات القرن الثانى الميلادي، إلا أنهما، وغيرهما كانا يبحثان من منظور علم الأحياء.
إلا أن القصد هنا من «الأمن الثقافي» هو مدى قدرة الانسان من خلال ثقافته على تأمين هويته من الاختراق والتشويه والإحلال والاستبدال، وكفاءة قدرته على مواجهة الوافد «المهاجم والعدائي» من الثقافات العابرة للقارات من خلال ثقافاته المتنوعة ما بين العادات والتقاليد، والموروث والمستحدث، والمتوارث والمكتسب، وصنوف المعلومات ومدايات المعارف، ونتاج الطاقات الإبداعية والفكرية والعلمية، والمتبع من النص المقدس، ومختلف روافد الثقافة الثرية والمتنوعة التى تشكل الهوية الوطنية، ومن خلال ممارسات المواطن والمجتمع الثقافية التى تؤمن هويته الثقافية وتصون بناءه الفكرى وتحمى مدركات الوعى وتحفظ الوجدان لدى الفرد و المجتمع.
وفى القادم نستكمل الحديث إن شاء الله عن أهداف ومحددات الأمن الثقافي.