فى ركنى المعتاد بأحد «مقاهى» أحياء جنوب القاهرة الشهيرة، أجلس كل صباح على كرسيى المفضل.. أحتسى فنجان قهوتى الوحيد، كما أوصانى الطبيب، بينما تتابع عيناى ما يجرى فى العالم من حولى دون أن أتحرك من مكانى..آلاف الكيلومترات تفصلنى عن طهران وتل أبيب، لكن أصداء الصراع هناك تصلنى، تطرق بابى هنا بصمت وقلق.. لم تهطل الصواريخ التى تتبادلها إيران والعدو الإسرائيلى، لكن شيئًا ما فى الهواء قد تغير.. بين زحام الشوارع وصخب الحياة، تسللت آثار هذا الصراع إلى تفاصيل يومى: الأسعار، الوظائف، المستقبل، الحرب وحتى تلك الأحاديث التى تدور على الطاولات المجاورة لى فى المقهى.
كل صباح، أرهف السمع لحديث الجيران: أسمع أم شادى وهى تشكو من فاتورة الكهرباء التى لم تعد قادرة على سدادها، وأرى الشاب مصطفى يبحث بيأس عن وظيفة جديدة توفر له متطلبات الحياة بعدما رزق بابنه الثالث..بخلاف تلك الأحلام الصغيرة التى كانت تداعب عقول شبابنا، أراها تتلاشى، مؤجلة إلى أجل لا يعلمه إلا الله.. لا أحد هنا «على المقهى» يتحدث بشكل مباشر عن حقل «ليفياثان» أو تكلفة تأمين السفن.. حديثنا أبسط وأكثر إيلامًا؛ حديث عن سعر الزيت والسكر، وعن تكاليف المدارس التى تثقل كاهل الآباء. كل شىء يزداد صعوبة، والخوف من الغد أصبح هو الضيف الدائم على طاولاتنا.. بعد هذه الحروب والأزمات المحيطة بنا من كل اتجاه.. أسمع أحد الجالسين يقول: «الدولة تتحرك بسرعة، شكلوا لجنة أزمات وبيأمنوا مصادر بديلة للطاقة». ويرد آخر بصوت متعب: «ولكن طاقة المواطن نفسه نفدت.. بسبب هذا الصراع العالمى المميت أبتسم ابتسامة باهتة وأهز رأسى، وأقول فى نفسى: «الدولة لديها أدواتها، لكننا نحن لدينا حدود قدرتنا».
قد لا أفهم كثيرًا فى السياسة، لكن الأخبار تصلنى.. يقولون إن الحكومة أنفقـــت أكثر من 8 مليارات دولار لاســتيراد الغاز لتأمين احتياجات الصـــيف ، هذا رقم لا أستوعب حجمه، لكنى أستوعب جيدًا أن ثمنه يُدفع من ميزانية الدولة، وفى النهاية المواطن يتحمله عبر أسعار ترتفع بلا هوادة بسبب الأزمات العالمية المحيطة بنا.
وقناة السويس، شريان الخير الذى نتباهى به، سمعت أن إيراداتها تراجعت إلى النصف تقريبًا بعد التصعيد المتواصل للأحداث فى المنطقة، هذا لا يعنى مجرد رقم فى نشرة الأخبار بالنسبة لى، بل يعنى أن الدولة ستعانى، وقد تضطر للاقتراض أو لتقليص نفقاتها، وهو ما يعنى فى النهاية معاناة جديدة تضاف إلى قائمة معاناتنا اليومية الطويلة.
اخذت رشفة قهوة قبل ان أتساءل فى صمت: هل ستنجح حكومتنا فى منع هذه العاصفة من أن تتحول إلى أزمة مستدامة تقتلع ما تبقى من استقرارنا؟ أم أننى، المواطن البسيط، سأظل أدفع الثمن، بصمت، من قوت يومى، ومن راحة بالى،بسبب الجنون الذى أصبح يتحكم بالعالم.
أنظر إلى فنجانى الفارغ، ثم إلى الشارع المزدحم أمامى، وأتمتم لنفسى: « العالم يشتعل .. الاقتصاد يتألم… ونحن من ندفع الفاتورة».